TOP

جريدة المدى > عام > قصة قصيرة: وقت للأشباح

قصة قصيرة: وقت للأشباح

نشر في: 15 أغسطس, 2016: 12:01 ص

كان الأمر أشبه ما يكون بلعبة الغميضة، على الرغم من أنني لم أغمض عيني أبداً، رأيته حين فتح الباب ودخل الى البيت العتيق، هذه المرة لم أشك بوجوده، وكدت أسقط من هول المفاجأة، إذ كيف يأتي الى الحياة من يُفترض أنه شبع موتاً؟ تلعثمت حين نظر إليّ، وبحثت عن ح

كان الأمر أشبه ما يكون بلعبة الغميضة، على الرغم من أنني لم أغمض عيني أبداً، رأيته حين فتح الباب ودخل الى البيت العتيق، هذه المرة لم أشك بوجوده، وكدت أسقط من هول المفاجأة، إذ كيف يأتي الى الحياة من يُفترض أنه شبع موتاً؟ تلعثمت حين نظر إليّ، وبحثت عن حروف لأرصف الجمل وأخرِج الكلام من بين شفتي المتيبستين، لكن الحروف ضاعت مني..كان ينظر إليّ بعينين مستفهمتين، بما يعني من أكون.
جسدي تشظى في تلك اللحظة، وغمرني شعور من يبحث عن قشةٍ وسط موج متلاطم.. عندها، وقبل أن أفك عقدة لساني، اندفع الى الداخل بحركة سريعة، ولم أعد أراه.. وبقيت في المكان أتأرجح، منتظرة ما سيسفر عنه الموقف، ومستغربة مما يحدث لي.
ليست هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها، فقد كنت أمر قبل عام في شارع المتنبي، ولمحته يقرأ كتاباً من تلك الكتب المعروضة على الأرصفة، فاندفعتُ نحوه صارخة، ولم أكترث للذين التفتوا إليّ أو الذين زاحمتهم من أجل الوصول إليه، لكن ما إن وصلت حتى اختفى.. سألت البائع عن الرجل الذي كان يقرأ كتاباً، ردّ عليّ وابتسامة ساخرة تلوح على وجهه: كلهم يقرأون، هذا سوق للكتب وليس للكماليات.
بعد ما يقارب الشهرين كنتُ في سيارة أجرة، توقّفتْ عند الإشارة، وقبل أن تضيء الدائرة الخضراء بثوان رأيته في السيارة المجاورة، ناديته، لكن السيارة انطلقت بسرعة فائقة، طلبت من السائق أن يلحق بها، إلا أنه اعتذر قائلاً: عندي خمسة أطفال، لا أريدهم أن يفقدوا مورد رزقهم الوحيد.
عدتُ بالزمن الى عامين.. كانت رحى الحرب تدور وتطحن الأجساد والنفوس، وكنتُ قد سمعت بخبر إعدامه من صديق مشترك بيننا، قال "إنهم" اعتبروه من المتخاذلين في المعركة.. وأضاف أن الاشتباكات العنيفة، وهول ما يحدث حين تستعر المعارك، والالتحام المباشر مع العدو، لا يعطي أحداً دقة تصويب الموقف، فالجندي الذي يركض وسط كثافة الدخان قد يفقد الاتجاه الصحيح، ويمضي الى خطوط العدو، وبهذا يظنون أنه يهرب من المعركة.
كانت الصدمة قد زعزعتني فلم أقل شيئاً، أما أمه المفجوعة فلم تصدق ما آل إليه مصير ابنها، هي وحدها بحس الأم تعرف أي نوع من الرجال أنجبت.
عندما سلموهم الجثة بعد منتصف الليل في تابوت مبسمر قرأوا عليهم الأوامر: ادفنوه فوراً.. ممنوع البكاء.. ممنوع إقامة العزاء.. ممنوع الثرثرة مع الجيران.. ادفعوا ثمن الرصاصات.
لم يتجرأ أحد من الجيران على مواساتهم علناً وإن كانوا يشاطرونهم الحزن، أو يقومون بزيارات سرية خاطفة لكي يخففوا من عذاباتهم، أما أنا فلم يعد لديّ ما أخاف عليه، مضيت الى البيت المنكوب، وبكيت بين يدي أمه.. احتضنتْ دموعي، ثم همستْ: لا تصدقي موته.. إنه حي يُرزق.
رفعتُ رأسي الى وجهها المتغضن، فأضاء بابتسامة غامضة، بينما عيناها كانتا رطبتين بطبقة خفيفة من الدمع، قلت لها:  لم أفهم.. ردّت بيقين الأم التي تعرف بواطن الأمور: كما أقول لكِ.. والتزمت الصمت، رافضة أن تضيف شيئاً.
حين عدتُ الى البيت، رحتُ أعيد ما أخبرتني به، وفسّرتُ الأمر على نحوٍ آخر، قلت: إما أن تكون الصدمة قد فعلت فعلها في هذه الأم المفجوعة، وإما كانت تقصد أنه حي يرزق عند الله باعتباره مات مغدوراً.. وقررت أن أستوضح المزيد في الزيارة التالية، فلعل الأم تفصح بشيء جديد.. لكن الأمور توقفت عند هذا الحد، بعد أن وردني خبر اعتقالها وإيداعها مستشفى الأمراض العقلية بسبب ثرثرتها بـ "حكايات لا تناسب ظروف البلد" وقد ماتت بعد شهرين من ذلك الاعتقال بنوبة قلبية كما ورد في تقرير المستشفى.
ظل السؤال معلقاً، يجلدني من حين لآخر ويشج رأسي، يحفر عميقاً ويسبب لي الدوار ويتناسل عن أسئلة وحكايات لا نهاية لها.
أفترض "أنهم" توهموا وأعدموا جسداً آخر في زحمة القرارات العشوائية، إذ أن وجوه الجنود تبدو متشابهة حين تحتدم المعارك، ومعجونة بالتراب والدم والدخان والخوف، وقد يكون قد أسِر أو التجأ الى منطقة آمنة ريثما ينجلي الغبار وتتوقف القذائف، أو هرب الى بلد مجاور لأنه أدرك عبثية الحرب، ثم بعد أشهر عاد الى الوطن متخفياً..ألوك الحكايات والافتراضات، وأنتقي منها ما يناسبني، طاردةً كل ما يقود الى إعدامه.
وحين مرت الأيام وتشكلت السنون، باتت قصتنا مجرد حلم عابر مر على الخاطر ومضى الى النسيان أو التناسي، حتى رأيته في شارع المتنبي، أو توهمت رؤيته كما قال لي صديقنا المشترك عندما أخبرته بالأمر وأنا أبحث في عينيه عن حقيقة غائبة عني، ثم تطرقت الى ما قالته أمه قبل اعتقالها، فلم يقل سوى: الله أعلم.
وها هو يعود الى لعبته معي، أراه هنا وهناك، وما إن أهمّ إليه حتى يختفي، وكنت أخشى على نفسي من أن يكون الأمر كله متعلقاً بسلامة قواي العقلية.. من يدري، فربما أكون قد اختنقت بحبي له ولم أجد متسعاً من الوقت لأنتشل نفسي.. لكنني في كل الأحوال واصلت "معاركي" للوصول الى الحقيقة.
**
ها إني أراه يعبر شارع حيفا، تبعته بهدوء وحذر كمن يمشي على أشواك، دخل زقاقاً ضيقاً من أزقة الشواكة، ومنه الى زقاق أكثر ضيقاً، وصل الى نهايته ودفع باباً خشبياً ثم أغلقه وراءه، أسرعت بقدمين مرتعشتين، تطلعت الى الباب العتيق الذي تتوسطه في الأعلى قبضة من البرونز على شكل كف، فكرت بطرق الباب لكنني تراجعت، وقررت الدخول بعد أن اكتشفت أن الباب ليس مقفلاً من الداخل.
سرت في ممر شبه مظلم، ينفتح على فناء مربع، فجأة صرت قبالته، نظر إليّ مستفهماً، ولمحتُ خوفاً في عينيه، أردت أن أقول له شيئاً، أي شيء، لكن الحروف هربت من بين شفتي، بينما أسرع هو الى إحدى الغرف وتوارى عني.
واقفة في المكان لم أزل، متشبثة بآخر الخيوط في رأسي، منتظرة خروجه من حيث دخل، لكن الوقت طال وتمدد.. ناديته: إلى متى سأبقى بانتظارك؟ لم يرد.. السكون مريب، وقدماي تغوصان ببقايا ماء آسن، تقدمتُ بخطى متوجسة، نظرت الى حيطان البيت الشائخ ذي الأبواب المتآكلة، اقتربت من باب الغرفة التي ولجها، واكتشفت أنها مقفلة من الخارج بقفل حديدي صدئ.. تسلل الرعب إليّ واختض بدني، استدرت لأهرب فإذا بامرأة عجوز  تقف عند باب البيت، تتطلع نحوي بخوف، تتعوّذ من شر الشيطان الرجيم، ثم تسألني: إنسية أنتِ أم جنية؟
وقبل أن تسمع ردي هربت من المكان وهي تصرخ: أيها الناس، الأشباح تخرج من البيت المهجور.
هربتُ أنا الأخرى، بينما الأصوات تلاحقني، نافضة كل الأسئلة من رأسي، وكل الذكريات التي علقت بي من حكاية لم تعد تناسبني، ستتكرر مع عشرات النساء غيري.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram