عندما نتكلم عن النقد العراقي , فإن اسم الناقد عباس عبد جاسم يتقدم الخارطة النقدية بلا شك, لما يعرف عنه من مثابرة في متابعة كل ما هو جديد في تطورات النظرية النقدية ومسارات الجدل الادبي على مستوى النظرية والتطبيق, فقد عرفته منذ التسعينات ناقدا متابعا ل
عندما نتكلم عن النقد العراقي , فإن اسم الناقد عباس عبد جاسم يتقدم الخارطة النقدية بلا شك, لما يعرف عنه من مثابرة في متابعة كل ما هو جديد في تطورات النظرية النقدية ومسارات الجدل الادبي على مستوى النظرية والتطبيق, فقد عرفته منذ التسعينات ناقدا متابعا لكل جيل من أجيال الشعر العراقي وما زال حتى الان, والأهم هو ان الناقد عباس عبد جاسم يمتاز بحيوية العمل على أكثر من جناح أدبي إضافة الى الممارسة النقدية , فله العديد من الاعمال القصصية والروائية المعروفة كان آخرها ( أجنحة البركوار ) عام 2014, كما انه يرأس تحرير جريدة الأديب البغدادية المتميزة بحضورها الجاد في المشهد الادبي العراقي والعربي على حد سواء, وفي الاونة الاخيرة قدم لنا إصداره الاخير ( النظرية النقدية العابرة للتخصصات ) وهو ما حفزنا لاقتناص حوار معه في هذا الصدد, حيث يقول في مقدمة كتابه، "لا تُعنى هذه المقاربة بصيغة التعريف بالنظرية النقدية واجترار دعوات تاسيس نظرية نقدية عربية، كما لا تُعنى بأرخنة مراحل تطور النقد العربي، وانما تُعنى بالعوامل المحركة والدافعة لتحولات النقد العربي المعاصر برؤية جديدة الى الذات والنص والعالم، بعد أن توافر السياق لإنتاج النظرية النقدية العابرة للتخصصات، وخاصة بعد أن أفادت كثيراً من الخطابات عِبْرَ التخصصية".
* إن مصطلح (cross-disciplinary) يعني حرفياً تجاوز الانضباط الاكاديمي ، وفي المجال النقدي هو عبور التخصصات المنهاجية في المعرفة ، ويتضمن الخبرة والناس والمشاريع والمجتمعات المحلية والتحديات والدراسات و.. الخ ، من هنا يأتي السؤال عن حاجتنا العربية للتنافد المنهجي في النقد العربي تحديدا ً. هل هناك حاجة ماسة يحتاجها الناقد العربي الآن ، للتخلص من الانضباط المنهجي ؟
- ينبغي التمييز بين المصطلح والمفهوم ، فالمصطلح مكتف بذاته ، وله أكثر من تعريف يحيل الى معنى ، وفي المقابل فإن المفهوم غير مكتفٍ بذاته ، متغيّر ، يستدعي إليه مفاهيم أخرى ، وبذا استخدمتُ مصطلح ( cross – disciplinary ) كآلية من آليات ضبط النسق المعرفي لمفهوم "العابر للتخصصات" بوصفه حمولة مفهومية عابرة للمناهج أو عابرة للثقافات . كما يعني مصطلح ( العابر للتخصصات) تجاوز أو اختراق الحدود القائمة بين المتون المعرفية ، وكيف ينبغي أن تتفاعل ( عِبْر المناهجية أو البينية أو التعددية ) ، كضرورة علمية معرفية يحتاجها الناقد العربي الآن لتجاوز ماسميته في سؤالك بـ ( الانضباط الاكاديمي ) أو( التخلص من الانضباط المنهجي ) .
* هل يمكن اعتبار تهجين المناهج جزءا ًمن تبديات بعد ما بعد الحداثة أو الحداثة الفائقة ، وضغوط العولمة وعصر الاتصالات السريعة وتعدد الهويات وغيرها من التسميات التي أنتجها الاقتصاد الآن؟
- أولاً أختلف مع ماسميته في سؤالك (بعد مابعد الحداثة)، لهذا اصطلحتُ عليه بـ (الحداثة البعدية ) باعتبارها الحداثة في مرحلتها الثانية أو اللاحقة ، وثانياً جاءت الحداثة البعدية نتيجة أزمة النظام الرأسمالي التي أفرزها التطور التراكمي للثورات العلمية ، واكتشاف مبادئ اللايقين واللاتعيين ، وخاصة ( نظرية الكوانتم) ، التي فكّكت الحتمية واليقين باكتشاف فكرة الاحتمال أو ما سمته بـ ( مبدأ الارتياب).
نعم . أتفق معك في أن ( تهجين المناهج ) جزء من عصر العولمة التي أنتجها الاقتصاد المعولم نتيجة انهيار المشروع ( الفوردي) وانهيار ( دولة الرفاه ) و انهيار( مشروع التنمية ) وانفجار( تكنلوجيا الاتصالات) وسيطرة ( الميديولوجيا )على وسائل التواصل الاجتماعي في العالم .
* الفكر الغربي فكر متنام وسريع وقافز، كيف يمكن تقييم النقد العربي في هذا المجال ، ونحن مازلنا في طور النهوض والنكوص ، مرّة مع التطور العلمي ، ومرة ضده ؟
- إن النقد العربي في أزمة مفتوحة على تحولات جديدة ، وخاصة بعد أن "أنتج النقاد العرب حداثة عربية ، ولم ينتجوا نظرية نقدية" ، مما أدخل النقد العربي مرحلة جديدة ما بعد مناهجية ، ليرتبط بصراع الخطابات النقدية الجديدة ، وهذه الخطابات نتاج تعارض جذري بين ( الثقافة المركزية والثقافة المضادة ) .
إذا ً نحن والبنيات التحتانية للفكر النقدي العربي في أزمة مجتمعية ، وظهور نظرية نقدية جديدة تشكل استجابة حية لهذه الأزمة كمؤشّر دال على أن المناسبة قد حانت لتغيير الأدوات والمفاهيم والفرضيات برؤية جديدة للنص والذات والعالم .
* يعد كل من ( كمال أبو ديب ، صلاح فضل ، بدر الدين عرودكي ، محمد بنيس ، حميد لحميداني ) وغيرهم نقادا ً بنيويين ، أما ( عبد السلام بن عبد العالي ، علي حرب ، عبد الله ابراهيم ، عبد الله الغذامي ) نقادا تفكيكيين، هل يمكن الحديث عن ( نقاد مابعد التفكيك عربياً ) ؟ أم قلق ما بعد النظرية الأدبية التي خصصت الأجناس الأدبية والنقدية على حد سواء ؟
- رغم ان التفكيك وِلد من رحم البنيوية ، فإنه يمثل أول حركة ضد البنيوية ، وما بعدها ، فالتفكيك ليس تحليلا ً ولا نقدا ً ولا منهجا ً، وانما كتابة تُعنى بـ ( حل أو فك أو نقض البناء أو هدمه ) فالبعض من نقاد البنيوية انتقل الى ما بعد البنيوية ، ولكن لايمكن "الحديث عن نقاد ما بعد التفكيك عربيا ً" ، باستثناء علي حرب في كتابه ( هكذا أقرأ ما بعد التفكيك ) الصادر عام 2005 ، وهو كتاب "يختلف عن التفكيك" كما يقول علي حرب نفسه .
أما الشق الثاني من سؤالك ، فرغم أن الأدب يتجدّد على الدوام ، والنظرية تتجاوز نفسها باستمرار ، فهناك قلق منهجي يطبع الخطاب النقدي العربي المعاصر جراء إزالة الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية والنقدية ، وقد وصل القلق كما أرى درجة الاضطراب الكبير بسبب عجز المناهج الاكاديمية الأحادية من استيعاب تحولات النص الادبي الجديدة .
لهذا فإن قلق ما بعد النظرية الأدبية ، وما تشير اليه من مآلات نقدية قادمة ، قلق نقدي منهجي محرِّك ودافع للنظرية في أن تكون نقدا ً للنقد وليس تنظيرا ً للأدب ، الأمر الذي سيدفع بالنظرية نحو التحرّر كليا ً من بقايا الآيديولوجيات الشمولية في الأدب ، والانفتاح بها على العلوم الانسانية والطبيعية بأفق عِبْر مناهجي .
* تعد إشكالية المصطلح من أعقد الاشكاليات النقدية في العالم العربي .. مازالت القضية خاضعة لأهواء ونقاد ومترجمين، ماهو الحل برأيك ؟
- لم يعد المصطلح يرتبط بالمنطق وعلم المعلومات وعلم الدلالة في التداول النقدي ، فقد أصبح مركز مدار اختلاف بين مترجم وآخر أو ناقد وآخر أو ناقل وآخر ، بل ولم يعد يرتبط بسياق معين ، حتى تغيّر موقع المصطلح من السياق ، لهذا توسعت إشكالية المصطلح أكثر بدخول المصطلح "المتعدد التخصصات".
واسمح لي أن أوجِّه عناية القارئ من خلال سؤالك الى ان المصطلح المتعدد التخصصات يمتلك خصوصية الترميز الاصطلاحي والتوسع المعرفي ، بما يجعله يمتلك القدرة التأطيرية على تعريف الواقع ومعاينة النص الأدبي وتقريب المفهوم من القضية المحمولة .
وعلى وفق هذا السياق ، فإن إشكالية المصطلح و( المصطلح الأحادي ) على وجه الخصوص في طور الانحلال والازاحة والإبدال بظهور المصطلح المتعدد التخصصات ، حتى أخذ (المصطلح الأحادي ) يضمحل تدريجياً في التداول النقدي.