(2 - 2)الرواية ( إذا الأيام أغسقت) تتحدث – كذلك – عن سطوة عميد الكلية وغطرسته وعينه الرقابية التي تحصي الحركات والسكنات, وياليتها كانت خالصة لوجه العلم والدرس, لارتقى العلم والمستوى الدراسي, لكنها كانت عيناً رقابية سياسية, فضلاً عن تلصص ف
(2 - 2)
الرواية ( إذا الأيام أغسقت) تتحدث – كذلك – عن سطوة عميد الكلية وغطرسته وعينه الرقابية التي تحصي الحركات والسكنات, وياليتها كانت خالصة لوجه العلم والدرس, لارتقى العلم والمستوى الدراسي, لكنها كانت عيناً رقابية سياسية, فضلاً عن تلصص فزّاع عليوي, مسؤول أمن الكلية على خصوصيات الأساتذة والطلاب ولاسيما الذين لا يسايرون ثقافة القطيع وتوجهاته, هذا الفزاع, وقد أحسنت الروائية حياة شرارة, إذ اختارت له هذا الاسم, ينفس عن عقده الناتجة عن صَغار شأنه, من خلال محاولته تخويف الأساتذة والتقليل من شأنهم وهو أمر تناوله باستفاضة الدكتور إبراهيم السامرائي في سيرته الذاتية التي وسمها بـ (حديث السنين).
تروي الروائية الدكتورة حياة شرارة, على لسان الرواي المركزي الدكتور نعمان, الكثير من مفارقات الحياة, وطباقاتها, أو تضادها, ففي حين يأسف الدكتور أكرم, وقد ابعدوه عن أجواء الدرس والبحث في الكلية وأحالوه إلى التقاعد, يعاني فراغاً روحياً, يأسف لأن كتبه بقيت على رفوف مكتبته من غير ان تنشر, والكتابة من غير نشر, تشبه صراخاً في علبة, وإذ يسأله الدكتور نعمان في إحدى زياراته القليلة له, وقد لمس أساه وعذابه جراء إبعاده عن الكلية.
- ألا تواصل الكتابة؟
يجيبه:
- ستدهش إذا قلت لك إنها أصبحت تشبه مياه المستنقع الراكد! ماذا تعني الكتابة إذا أصبحت بلاغاية إذا لم تستطع أن تنشر ما تكتبه وتوصله إلى الناس! ما قيمتها إذا ظلت محفوظة في أدراج مكتبك او على الرف؟ (...) إنني لم أنشر شيئاً منذ سنوات بعيدة, وكتبي القديمة تقرأ كجزء من التأريخ, وليس من الحاضر بينما ما أزال أنا حياً, تنبض دمائي بالنشاط, إن كل ما يمكن أن آمله هو أن تنشر نتاجاتي بعد موتي, إذا حالفها الحظ. تراجع ص258.
في حين ينعم الجهال, بالترقيات والنشر, هم الذين لا يستطيعون كتابة مقال بسيط بشكل سليم, لسبب بسيط ومهم في آن معاً, أنهم عديمو الموهبة, فالكتابة موهبة, ولاشأن لها بكثرة المعلومات, وأعرف أناساً يزخرون بالمعارف, ولباقة الحديث لكنهم لا يستطيعون كتابة سطر واحد, وفي بعض رواد المجالس الثقافية, الكثير من الشواهد, لذا فإن هؤلاء قليلو المواهب, انغمسوا في السياسة للتعويض, وتمشية أمورهم الحياتية.
الروائية حياة شرارة تطلق سؤالها المعذب هذا على لسان الدكتور نعمان الراوي المركزي متسائلاً:
- هناك من لديهم معارف جيدة, ويقرأون كثيراً ولديهم همةٌ وجد ومثابرة ولكنهم لا يستطيعون كتابة مقال على نحو سليم, لا أدري كيف كتبوا أطروحاتهم وحصلوا على ترقية علمية؟
ويأتي الجواب على لسان محاوره الدكتور بدري, ناصاً على ضرورة توفر الموهبة, وموهبة البحث والكتابة قائلاً:
- (...) إن أي نوع من الكتابة , يحتاج إلى موهبة معينة, ولا يقتصر ذلك على الشعر والقصة كما تظن, فالرغبة وحدها لا تكفي للكتابة الجيدة ما دامت الموهبة مفقودة. تراجع ص 127.
مواجهة قساوة الحياة بالسخرية
وإذ تتراجع منظومة القيم الأخلاقية وتتهاوى إلى قرار سحيق, بسبب ارتباك الحال الناتج عن الحروب المستديمة, والحصار المفجع, فيلجأ بعضهم إلى مداواة الحال بالسخرية. السخرية من كل شيء والدعوة إلى العبث واللا انتماء, واللاجدوى, فكل شيء إلى هباء وخراب وتلاشٍ, ولأن رواية (إذا الأيام أغسقت) رواية واقعية, تصور وقائع الحياة القاتمة المتراجعة , ليس تصويراً فوتغرافياً بل وفني, فإنها مازجت بين الوقائع الحياتية وفن السرد لتتحدث عن الحال الذي أمسى فيه الحسُ المرهف, كابوساً يحول حياة الفرد إلى جحيم, يحاول الدكتور أنور مداواته بالعبث والسخرية, ليجيب زميله الدكتور ياسين الذي يشكو إليه أن:
- كل شيء يسبح أمام عيني في ضباب رمادي, لم أعد أفهم نفسي ولا الناس, يجيبه بسخرية لاذعة.
- البلادة نعمة في زماننا وميزة, علينا أن نرعاها ونطورها في داخلنا, كي نواصل الحياة ونرى جوانبها الحلوة, كما يفعل كثير من الناس, رهافة الحس عندك تضرك, وعليك ان تخلعها.
قاطعه بتوتر قائلاً:
- أهي حذاء أخلعه من قدمي والقيه أرضاً؟ ليس الأمر بهذه البساطة التي تتكلم عنها!
قال أنور:
- الحذاء أفضل منها, إنه يقي قدميك من الحر والبرد (...) أما إحساسك فإنه يأتي اليك بالعذاب والقلق, ويكدرك. تصرف بشكل عملي, بلا مبالاة, ببلادة, إذا لم تجرحك هذه الكلمة, وعندها تصاب مشاعرك بالشلل, تحيا وفق نظام الأشياء الجاري راضياً بنصيبك منها. تراجع ص320.
رواية الحياة الجامعية .. سنوات الحصار
قلت في بداية حديثي هذا , إن رواية (إذا الأيام أغسقت) للأستاذة الجامعية حياة شرارة, من روايات الحيز الضيق زماناً ومكاناً وشخوصاً فهي تكاد تسرد علينا صورة الحياة الجامعية في بغداد, أيام الحصار (1990-2003) وعلى مدى سنة واحدة, هي السنة الأخيرة لحياة الدكتور نعمان في الحرم الجامعي الذي كان يروم إحالة نفسه إلى التقاعد تخلصاً من الضغوط, وظلت في أجواء الكلية لا تكاد تغادرها, فضلاً عن شخوصها وهم: أساتذة الكلية وموظفوها وطلابها, تبدأ الرواية وهي تنقل لنا أجواء بداية العام الدراسي وطقوس الدكتور نعمان الحياتية, وهو يتهيأ للذهاب إلى الكلية, وتنتهي مع أداء الطلبة لامتحاناتهم النهائية, مصورة خلجات الدكتور نعمان, وهو يغادر قاعة الامتحان في آخر يوم امتحاني, بعد أن جمع دفاتر الطلبة, الذين ظلوا متشبثين بها, على الرغم من الساعات الثلاث التي أمضوها في قاعة الامتحان, ولما يكملوا الأجوبة, لعدم جديتهم في الدرس, فضلاً عن توقهم المؤسف للغش, وسلَّم الدفاتر إلى اللجنة الامتحانية, وغادر مبنى الكلية لتلفح وجهه أشعة شمس حزيران والعرق يتصبب من وجهه " وكانت جموع الطلبة تسير(...) مسرعة للحصول على مكان في سيارة النقل العام (...) غذذت الخطى مثلهم وأنا أستحث قواي التي أخذت تخونني (...) هكذا ستكرر بداية وخاتمة كل يوم: إطاعة الأوامر, ومخالفة رغبات النفس إجبارها على الصمت, والسير تحت لهيب الشمس والانتظار في مواقف السيارات والتدافع لدخولها والحصول على مكان فيها" ص366.