TOP

جريدة المدى > عام > فردية متعالية أم إشارة احتجاج؟

فردية متعالية أم إشارة احتجاج؟

نشر في: 28 أغسطس, 2016: 12:01 ص

عجباً لتاريخنا الادبي كم يبدو احياناً بائساً مقصِّراً. فهو يجمع بين النصوص المهمة والجليلة، وهي قليلة، وبين تلك الاكوام التي لا اهمية لها. أن خزانات كتب التراث تخفي النوادر بين الكثير مما يعلكُ به الأميون والمتعطلون في المجتمعات الراكدة. فهي مثقلة با

عجباً لتاريخنا الادبي كم يبدو احياناً بائساً مقصِّراً. فهو يجمع بين النصوص المهمة والجليلة، وهي قليلة، وبين تلك الاكوام التي لا اهمية لها. أن خزانات كتب التراث تخفي النوادر بين الكثير مما يعلكُ به الأميون والمتعطلون في المجتمعات الراكدة. فهي مثقلة بالنظم الفارغ والاحاديث السمجة وتافه الكلام. وكل هذا تجده مبوباً وله رواة وأسانيد ويحتفظون به وثائق وشهادات.

لستُ ضد هذا فقد نجد فيما لا نرضاه عوناً على حل إشكال. والمقارنات مطلوبة في البحوث والدراسات. لكن نصوصاً ملفتة للنظر ومتميزة، او غريبة عليهم، لا نجدها موضع اهتمام علماً ان وراءها ما وراءها من اشارات أو هي اهل للتأويل والقراءة الثانية. هذه ترد وكأنها همل لا قيمة له. فالمرجع يقول لك: يقول أحدهم أو قيل أو يُروى. لكن كيف قيل ويروى وهو نص متميز ملفت للنظر وغريب في بابه؟ فلا ذكر لصاحب النص ولا اشارة معرفية للوثيقة او الموقف المجيد الذي يشير له.
من هذه ما قرأته يوماً في "نهاية الأرب" للنويري، المجلد الثالث صفحة 359 . نص بثلاثة أبيات تبدو اعتيادية، او هي من هوس الشعراء او قل لشخصية "بوهيمية" او "وجودية" او شطحة صعلوك نافر متمرد. لكنها عموماً خارج "العام" ومَن وراءها ساخر متحد. وقد نُقصر القول على انه شاعر له شخصية تيّاهة، زهوان او متعال يخاطب من حوله مترفعاً رافضاً لحالهم ومزدرياً له ولهم. أن مجموع ما افترضناه من صفات له يقول لنا انه شاعرٌ مأخوذٌ بالشعر أو صاحب فكر في الناس والحياة.
هذه هي أبيات الشاعر المجهول:
أتيهُ على إنسِ البلاد وجنِّها
وأنْ لم أجدْ خلْقاً أتيهُ على نفسي
أتيهُ فلا أدري من التيه من أنا
سوى ما يقول الناس فيَّ وفي جنسي
فأن صَدَقوا أني من الإنس مثلهم
فما فيَّ عيبٌ غير أني من الإنسِ
قراءة هذه الأبيات تنقلك مباشرة من الاعتيادي العام. وتكشف عن شاعر غريب في موضوعه وفي شخصيته. فبين ما كان سائداً، يبدو هذا الرجل عبثياً سكيراً يثمل ويتيه، يذكرنا بالمنخَّل اليشكري: "فإذا سكرتُ، أنا ربُ الخورنقِ والسديرِ ..." . لكنه من ناحية أُخرى لا يبدو لي مخموراً لأنه يقول "فإن لم أجد خلقاً أتيهُ على نفسي" فما هذه الرؤية العظيمة للنفس؟ هو صاحٍ وفي تمام الصحو وأنه غير مبالٍ بكل كلام الناس حوله الا بما يقولونه فيه وفي جنسه البشري، او الأخلاقي، او في حاله الاجتماعي اذا توسعنا. هذا يعني استياءً من البشرية. ايضاً من نظر الآخرين له كما ينظرون لسواه من الناس.
البيت الأخير أعطى للقصيدة بعداً آخر. فهذا "المتميز"، "المختلف" ، "المتعالي" على السوام او على سواد الناس، بشخصيته او بحساسيته وذكائه او فهمه، يسيئه ان يكون واحداً ممن يسمونهم "الإنس" أو البشر. هو يعيش في مجتمع دونه فهماً أو إحساساً. فهو الشاعر او الفنان او الرائي المتفهم للعالم ولأولاء الناس وحياتهم و يؤسفه ان يكون نفراً بين الأنفار او واحداً من أولئك البشر المهمومين بالكسب والركض وراء صغائر الامور والتنافس على ما يفنى! ربما هو لا يرى لحياتهم هذه معنى!
هذا النوع من الشعور ينتابنا جميعاً فيشعر واحدنا احيانا بالاسف من انه يعيش في بلد كهذا او مجتمعٍ كهذا او يعمل بين ناس كهؤلاء. شخصياً لا أراه ، بافكاره هذه رجلاً موغلاً في القدم. يبدو لي، لجملة اسباب، من القرن الرابع الهجري. وفي أفكار مثل هذه يبدو لي معاصرا. هو يذكرني بـ "حسين مردان" عندنا في العراق، وقد أجدُ حساً بودليرياً مع نؤاسية مضمَرة..
نعود الى موضوعنا .. هل يعقل ان شاعراً مثل هذا يظل مجهولاً ويوثَّق حيص بيص ومن دونه وتطبع مخطوطاتهم؟ وان شاعرا مثل هذا تأتي مقتطفاته مسبوقة بـ "قال احد الشعراء" وفي وقت، كما قلنا، وُثِّقت فيه اشعار لا قيمة لها بل حتى طرائف تافهة وحماقات؟ السبب انه رجلٌ "أعلى" وأنه ليس من جُلاس الموائد وشحاذي الولاة واصحاب المال. هو زاهد بهم وبمجتمعهم وباحوالهم مترفعاً بامتيازه الشخصي: "أتيهُ على إنس البلاد وجنّها" بل هو يأسف على نفسه حين يكون شبيهاً بهم في آدميتهم ويرى عيباً أن يكون واحداً من أولاء وقد عرف ما فيهم .
في معالجة لموضوع مثل هذا او لظاهرة كهذه قد يكون من الانسب استعمال مصطلحي "عقلانية" و "غير عقلانية" الافراد في الحياة الاجتماعية . فالافعال المنطقية هي تلك التي نتوجه بها الى أهداف يمكن الوصول لها. وهذه تستعين بوسائل صالحة للوصول الى تلك الأهداف. اما الافعال غير المنطقية فهي تلك التي لا نتوجه بها ولا نسعى بها الى هدف او غاية. أو تلك التي تأخذنا لغايات لا يمكن الوصول لها ولكننا نحتاج لإعلانها، نحتاج لإيقاد إشارة ضوئية او اطلاق صرخة تنبيه.
العبارة الثالثة هي التي تعنينا. فهي التي يمكن الافادة منها في الكلام عن شاعرنا الذي يتيه على إنس البلاد وجنها وعلى نفسه حينما يدرك او يقال له انه مثل الآخرين.
"بارتيو" في كتابه "النخبة" يقول "معظم الأفعال الإنسانية غير منطقية ويمضي فيها الفرد باحثاً عن ماهية القوى الكامنة. وهذه القوى، كما يذكرها تأتي بـ ست نقاط، منها "كرامة الفرد"! وأظن هذه هي التي تعنينا أكثر من سواها. أعني أكثر من الجنس والروح الاجتماعية و التوحّد ...
رؤية شاعرنا لكرامته الإنسانية المتميزة بين سواه والنظر بازدراء لحياتهم واهتماماتهم أورثا أسفاً ،وهذا الأسف لهم ولحالهم. واليأس من صلاحهم، هو الذي ولَّد فيه هذا النأي والترفع عنهم. ثمة ايجاب مهم وراء ما يبدو من سلبية سلوكه وقوله !
نحن إذاً بصدد هبوط الافراد والمجتمعات. وفي حالات الامتياز يرتفع الفرد حين هبوط المجتمع، كما قد يحصل العكس أيضاً. ونحن هنا في الحالة الاولى. ويمكن ايضاً ان نقول بهبوط الاثنين، النخب والمجتمع وصعود فردية بينهم استطاعت ان ترى الهبوط الكبير الحاصل وان تجد نفسها محاطة بتفسخ المجتمع ولا معنى توجهاته . الفرد المنتبه يكرس نفسه للقيادة حينما ينتبه للسقوط العام، فيتعالى على ما يرى ولا يكتم صيحة الرفض. هو نوع من الاحتجاج مصحوبا بابتسامة الازدراء...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram