3- عند الشيخ الرئيس ابن سينا
همدان ، المدينة التي تتجمل بمرقد ونصب الشيخ الرئيس الفيلسوف ابن سينا وضريح الشاعر المتصوف العرفاني بابا طاهر الذي كتب الرباعيات في الفلسفة والعدالة والموت والحياة ونقشت بعض اشعاره على أربع وعشرين قطعة من الحجر الثمين ورصفت حول ضريحه في مزاره الشهير على مشارف همدان.
ماكان يعنيني أكثر في همدان السبعينات ليس بابا طاهر بل الفيلسوف العارف ابن سينا . بحثت في الخرائط وسألت بعض المارة ، لم يفهموا مقصدي لأنه يعرفونه باسمه بوعلي ، لم أكن أعرف شيئا عن نصبه التذكاري المتشامخ فوق ضريحه وسط حدائق فردوسية باهرة ،كنا نسير في شارع فسيح تنتشرعلى جانبيه محال بيع الزهور الأنيقة وثمة عشاق يمضون أزواجا تحت ظلال اشجار الصنوبر والزيزفون ، تجاور حوانيت الزهور مشاغل الخزف ومعارض الخزافين الذين يصنعون الخزف التقليدي اليدوي ذا الزخارف الشعبية الفارسية ويعرضونها بأسعار زهيدة مغوية، اشتريت بعض الأقداح وآنية حلوى من الخزف الأزرق التقليدي، قلبت وعاء الحلوى لأتفقد رسوماته فوجدت بطاقة ورقية ملصقة تشير إلى عنوان المتجر "محل الفنون الجميلة – شارع بو علي سينا " - ياالله - سألت البائع اين ضريح ابن سينا ، أشار الى الموقع المموه بأشجار عملاقة أخفت ملامح المبنى ذي الأعمدة الرخامية والمشيّد بقطع الرخام الضخمة ، بدا المبنى شبه حلم مضبب شرعت ملامحه بالاكتمال حال اكتشافي له وترددت في مسمعي أصداء من قصيدة ابن سينا العينية مع موسيقى يتردد صداها عزفا على الناي والسنطور.
لم أتوقف يوما عن اندهاشي بما اكتشف من أشخاص وأمكنة وافكار، الدهشة كانت وستبقى دافعي للسفر وحب القراءة واكتشاف النفوس وأسرار الأمكنة والأزمنة، مرة واحدة توقفت عن الدهشة عندما كنت لاجئة وحيدة في فرنسا ، لم اندهش بجمال باريس وأنا المجروحة بالعنصرية والخذلان والوحدة المطلقة ، لكن دهشتي كانت في أبهى تجلياتها عندما زرت إيران في أول الشباب بعد زيارتي لمصر ولبنان.
ها أنا ذا في فردوس"أبو علي سينا" كما يدعوه الإيرانيون ،ولابد أن يذهلني وجودي قرب ابن سينا عما سواه، كان رفاق الرحلة مبهورين بالنصب العملاق فوق ضريحه والجنائن حوله فطفقوا يصورونه من زوايا متعددة بينما وقفت وحدي أستعيد بعض ما تعلمته من قراءتي للشيخ الرئيس وابتهجُ بما أجدُ من قربه، كانت كلمات ابن سينا تحليقا فلسفيا بأجنحة الإلهام والفكر بعيدا عما هو أرضي وعابر في الحياة البشرية الملتصقة بالحاجة والضرورات مثلما بدا النصب المرتفع فوق الضريح.
مبنى المكتبة الفسيح ترفعه أعمدة رخامية عملاقة ذات ايحاءات ساسانية ، استدرجني إلى المزار المضاء بأشعة الشمس وبضع ثريات فوق ضريح الشيخ الرئيس إبن سينا عبق بخور وأشذاء ماء ورد تحوم في الهواء وتتمازج مع أصداء الشعر وبعض موسيقى سماوية تطوف حولنا وتروي لنا بالموسيقى لغة اللغات ، ما لم نفلح في قراءته باللغة الفارسية من مقولات إبن سينا. كانت مخطوطات كتبه النادرة معروضة كجواهر نفيسة في خزائن زجاجية : كتاب الشفاء ، وكتاب الاشارات والتنبيهات تتوسطها نسخة مصورة ثمينة مخطوطة بماء الذهب والألوان لكتاب الشاهنامة أو ( كتاب الملوك) للشاعر الفردوسي ،وكانت مخطوطات الفيلسوف الشيخ الرئيس الأصلية محتشدة بالطلاسم والشروح على الحواشي ، مخطوطات مرسومة عن الطب وأخرى في الفلسفة والموسيقى والنفس وعلم الفلك والجيولوجيا والرياضيات والمنطق والكيمياء والفيزياء والشعر، يا إلهى ، كم تأخرت لأعرف انني لا أعرف الكثير عن الفيلسوف ابن سينا.
يتبع