تطوّعت إيما سكاي لتعمل كموظفة مدنية في حكومة سلطة الائتلاف فوجدت نفسها تحكم محافظة كركوك. بعد ذلك أنهت ثلاث جولات من العمل في العراق لغاية الإنسحاب الأميركي عام 2011. حيث عملت كمستشارة سياسية للجنرال أوديرنو والجنرال بيترايوس. تسرد إيما في هذا
تطوّعت إيما سكاي لتعمل كموظفة مدنية في حكومة سلطة الائتلاف فوجدت نفسها تحكم محافظة كركوك. بعد ذلك أنهت ثلاث جولات من العمل في العراق لغاية الإنسحاب الأميركي عام 2011. حيث عملت كمستشارة سياسية للجنرال أوديرنو والجنرال بيترايوس. تسرد إيما في هذا الكتاب قصّة الآمال التي توقعها العالم والشعب العراقي وحتى بعض الأميركيين لمستقبل العراق بعد إزاحة نظام صدام، لكن ما حدث على أرض الواقع كان غرقاً في مستنقعٍ من العنف والإرهاب وحرب الآخرين على الأرض العراقية.
تروي في هذه التسجيلات تفاصيل الأحداث الجسام التي رافقت نشوء الدولة العراقية وتشكّلها بعد عام 2003. كيف سارت؟..؟وكيف برزت الأسماء المحلية؟ وكيف اختفت أسماء أخرى؟. ومن هي الأيادي التي كانت توجّه السياسة العراقية وبناء الدولة؟
هذا الكتاب يسرد القصة من الداخل. من مكاتب الجنرالات الأميركيين مرّة ومن مكتب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي مرّة أخرى. ومن اجتماعات السياسيين والشركات التي يفترض بها إعادة اعمار العراق ايضاً.
هو كتابٌ وصفته مجلة نيويوركر الأميركية بأنه "يشرح كيف إنهار كلّ شيء في العراق"، واعتبرته صحيفة الغارديان البريطانية "أداة لا غنى عنها لفهم خلفية هذا الفشل في العراق"، وهو في الأصل "يوميات ممتازة وسريعة الخطى تعتمد كلياً على ذكريات "إيما"، كما قالت مجلة فورين أفيرز الاميركية.
القصر الجمهوري.. بلا ماء ولا حكومة!
وفي واحدة من قاعات القصر الكبرى التي تعلوها قبة شاهقة، رسمت عليها من الداخل صورة المسجد الأقصى في أورشليم القدس وحوله خيول طائرة، بينما حمل أحد الجدران تجسيداً لصواريخ سكود وهي تتجه الى السماء. كان اسم صدام وحرف اسمه الأول محشوراً في كل مكان. ثم أكملت طريقي الى الخارج ووقفت اتفرج. كانت هناك أربعة تماثيل برونزية عملاقة نصفية تحاكي رأس صدام مُثبتة قرب سطح القصر. كان المهندسون الأميركيون يخططون للطريقة المثلى لإنزالها.
كانت الحياة في القصر الجمهوري في تلك الأيام المبكّرة شيئاً لم يعتده القصر بالمرّة، إذ كان مزدحماً بقطعات ضخمة من الجنود، ولا يُرى فيه سوى القليل من المدنيين. أقيمت المكاتب الإدارية في كل مكان تقريباً، لكن أماكنها كانت تتغير باستمرار. وكانت لوحات الدلالة تعلّق باستمرار للتعريف بالشاغلين الجدد، مع إشارات بالأسهم تشير الى الأماكن القديمة للمكاتب التي تم نقلها. ولم يكن هناك أيّ تكييف للهواء، حيث كانت الكهرباء غير منتظمة ومنظومة المياه معطّلة باستمرار. أما الغرف الفخمة والممرّات الباذخة فقد تم اتخاذها مهاجع لنوم الجنود، أو مكاناً مؤقتاً للمستشفيات الميدانية.
كان المحظوظ منّا هو من يجد مروحة تنفخ الهواء على جسمه المتعرّق حينما يكون هناك كهرباء. ولم تكن الحمامات والمرافق الصحية عاملة داخل القصر، كنا نمشي مسافات طويلة لقضاء حاجتنا في المرافق الصحية المؤقتة المُقامة في الفضاءآت الخارجية. أمّا مجمع الحمامات المقام ميدانياً فقد كان يخصص خلال ساعات محددة للنساء، وخلال ساعات أخرى من النهار يخصص للرجال. وفي بعض الأحيان كنا نضطر للاستحمام بالمياه المعدنية المعبأة، وربما نضطر في مرّات عدّة الى غسل الأرضية بهذه المياه أيضاً. كانت المرافق الصحية المتنقلة تفرّغ باستمرار كلّما امتلأت في نقاط التفريغ فتفوح الروائح النتنة في كل مكان. في النهاية، وجدت لي فراشاً في إحدى الغرف في الطابق العلوي، حيث تشاركني في الغرفة إمرأتان أخريان. لكن خلال بضعة أيام تلقينا إشعاراً بأن الغرفة قد تم تخصيصها لصالح استخدام أحد المكاتب وقد توجّب علينا اخلاؤها. لكنّي تدبّرت أمر غرفة في(فندق الرشيد)، القريب جداً من القصر؛ كان أحدهم سيغادر دون أن يسجل مغادرته وسيترك لي المفتاح.فندق الرشيد كان بناءً إسمنتياً ضخماً من ثمانية عشر طابقاً يقع داخل المنطقة الخضراء. لم يكن في مدخله أي أثر يدل على اللوحة الموزائيكية التي كانت تحمل صورة الرئيس جورج بوش الأب، والتي وضعت على أرضية المدخل بعد حرب الخليج 1991، بحيث تطأ الصورةَ أقدامُ كل من يدخل الى الفندق. كانت قد أزيلت بواسطة جنود أميركيين قبل بضعة أسابيع.
أما(مستلزمات الحياة) فقد كانت تزوّدنا بها شركة(كيلوغ براون وروت)((Kellogg Brown & Root، والمعروفة اختصاراً بـ(KBR). وهي فرع من فروع شركة هاليبيرتون(Halliburton) الأم. هاليبرتون كانت شركة عملاقة أميركية - متعددة الجنسيات، تختصّ بشؤون القطاع النفطي. بينما كانت(KBR) مسؤولة عن توفير الطعام لنا، وعن إرسال ملابسنا لأغراض الغسل الى الكويت، وعن كل المهام التي تؤمّن للجيش استمرارية عمله وإدارياته. تحوّلت القاعة الكبرى في القصر الى مطعم كبير، كان علي أن أقف في الطابور لثلاث مرّات يومياً وأحمل صينية وأدوات مائدة، كلها من البلاستيك وأختار بين الدجاج أو الهامبركر وشيئاً من بطاطس الحرية! (أطلق الجنود عليها هذه التسمية على أثر المعارضة الفرنسية للحرب- بدلاً من الاسم العالمي"بطاطس فرنسية")، ثم بعد ذلك أختار لي صودا باردة أو شاياً مثلجاً وأجلس الى إحدى الطاولات لتناول طعامي.
وخلال الأيام اللاحقة تلقيت عدّة إيجازات وشروحات من ضبّاط أميركيين ودبلوماسيين عن سير العمل في سلطة الائتلاف المؤقتة وتقدمه، وكيف تطور وفقاً للتسلسل الزمني للأوامر وتنفيذها. بدأت أتلمس التنافس الداخلي بين الأجهزة الأميركية العاملة في العراق، وقيل لي حينها أن وزارة الدفاع الأميركية أطلقت عملية تأسيس(مكتب الإعمار والمساعدات الإنسانية)، وإنها أناطت إدارته بالجنرال الأميركي المتقاعد، جي غارنر(Jay Garner). لكن، لم تمض إلّا أيام قلائل وظهر أن البيت الأبيض غير مرتاح لما خطط له الجنرال غارنر من خطط للاستعانة بحكومة إنتقالية تتكون من العراقيين، وإنه يخطط لإجراء إنتخابات عامة خلال تسعين يوماً. لكنّ الحكومة الأميركية كانت ترى أنها بحاجة الى شخصية ذات تأثير سياسي أعلى بدلاً من الجنرال المتقاعد.
وفي 11 آيار2003 تم تعيين بول بريمر(Paul Bremer) ليكون الرئيس الجديد لسلطة الائتلاف المؤقتة، والتي صار مكتب الإعمار جزءاً منها. لم يكن بريمر يرى أن هناك من العراقيين من يمكن الوثوق بقدرتهم على إدارة البلاد، لهذا قرر أن تخوض الولايات المتحدة تجربة الإدارة المباشرة للعراق الى أجل غير مسمى. كانت أميركا تنتوي إعادة اعمار العراق على غرار ما فعلت مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. ومن أجل تقويض الأسس التي كانت الدولة تدار وفقها في عهد صدام، وجّه بريمر سلطة الائتلاف بإصدار مرسوم يقضي بحل حزب البعث، وآخر يقضي بتسريح القوات الأمنية العراقية. لكنّه بهذا، كان يزيل عصب الدولة التي أبقت العراق متماسكاً وموحداً، لهذا فقد كان هناك فراغ في السلطة وتسريح جماعي للجميع.
وبينما تركّز الوجود البريطاني في العراق بمدينة البصرة، فقد كان هناك بعض البريطانيين موزّعين على بعض المحافظات، ثم جاء من أخبرني بضرورة سفري الى الشمال لألتحق بعمل هناك. كان قد مضى عليّ في العراق ما يقرب من أسبوع، و كنت راغبة بإلقاء نظرة على بغداد قبل أن أتركها، لكننا كنا نواجه وضعاً أمنياً آخذاً في التعقيد شيئاً فشيئاً، ولم يُسمح لنا بمغادرة القصر إلا بمرافقة أمنية مسلّحة ومدرّعة. لكن الفرصة سنحت لي لرؤية بغداد حين قرر أحد الضبّاط أن يصحبني معه الى فندق الشيراتون، وهناك صافحني وتمنّى لي حظاً سعيدأ وغضّ النظر عني، فابتعدت عنه بهدوء وخرجت خارج الرقعة المحاطة بالأسلاك الشائكة وأصبحت فجأة في الشارع لوحدي.
وجدت نفسي أتمشى عند الضفة الشرقية لنهر دجلة، في الشارع المُسمى باسم(شارع أبو نؤاس)، على اسم الشاعر العظيم الذي خلّد بغداد، وخلّد الشعر والأدب فيها لقرون طويلة لاحقة، الشاعر الذي يذكّرنا أن بغداد كانت مكاناً متميزاً للثقافة العربية، وعاصمة لها، حتى غزاها المغول عام 1258.
لم يكن لدي أيّ فكرة عما هي عليه صورة بغداد المعاصرة، لكن أياً من الصور الخالدة التي وصفتها حكايات(ألف ليلة وليلة) لم يكن لها أي أثر، كانت ألأوساخ تنتشر في كل مكان، والقطط والكلاب السائبة تهيم على وجهها في الأزقة.
في بدايات القرن العشرين، كان ثلث سكان بغداد من اليهود. هذه الأرض شهدت ذات مرّة واحداً من أكثر المجتمعات اليهودية ازدهاراً. فعلى ضفاف النهر عند بابل، جلس اليهود ذات مرّة ينعون خراب معابدهم. ثم جاء صعود الدولة القومية في العراق، وتأسيس دولة إسرائيل، وهو ما دفع بمعظم اليهود العراقيين الى الهجرة نهائياً عن العراق، والآن لم يبق منهم سوى أقلّ من عشرة أشخاص ربما.
وبينما كنت أتمشى لمحت لافتة كتب عليها (غاليري) فدخلت الى المكان. بادرت صاحب المكان بالقول:"سلام عليكم"، فأجابني بترحاب كبير، ودعاني الى شرب الشاي وكان فيه الكثير من السكر في كأس تقليدي عراقي. ثم حدّثني عن المعرض الفنّي الذي يديره. إن بغداد كمدينة شرق أوسطية معروفة بأنها مركز للفن التشكيلي. وقال صاحب الغاليري:"لقد أخفيت كل الأعمال الفنية المهمة ونقلتها الى مخزن أمين، أعرف أنّ القصف الجوي لم يستهدف سوى المواقع الحكومية، لكنني أخشى عمليات السرقة (الحواسم) التي تلت دخول القوات الأميركية".
أخذ المصطلح(حواسم) منّي بعض الوقت لأفهم أن معناه هو(عمليات السرقة)، كان صدام قد أطلق على عملية غزو قوّات التحالف لقب(أم الحواسم)، وقبيل وصول القوّات الأميركية الى بغداد، فتح أبواب السجون وأطلق عدداً كبيراً من المُجرمين الى الشارع.
لم يكن صاحب المعرض الفنّي قد أعاد اللوحات كلّها الى جدران معرضه، لكنه اصطحبني الى الطابق العلوي ليعرض عليّ بعضاً من الأعمال الباقية. وقال:" كل العراقيين فرحون لزوال نظام صدام، لكنهم محبطون وخائفون من حالة الإنفلات وغياب القانون". ثم أضاف:"إن الناس يعتريها القلق نتيجة ضعف مصادر الطاقة الكهربائية وشحّ مياه الشرب".
كانت هاتان النقطتان من الاشياء التي أسمعها باستمرار كلما شرعت سلطة الائتلاف في التهيئة لمشروع خدمي، أو إعادة أحد المشاريع الى العمل. كانت مشاريع المياه قد تعرّضت الى التخريب والسرقة، وهناك من سرق الأنابيب والتحكمات. ثم قال لي صاحب المعرض الفني:"بالفعل أريد أن أفتتح المعرض أمام الزوار مرّة ثانية، لكن المشكلة تكمن في غياب الكهرباء".
واصلت المشي الى نهاية الشارع، فأصبحت في مواجهة مسجد كبير. وأمام المسجد، جلس عدد كبير من صرّافي العملة، كانوا يجلسون خلف مناضد صغيرة وأمامهم رزم من العملة العراقية. فأخرجت الكاميرا لألتقط بعض الصور. سمعت رجلاً عراقياً يرتدي الزي الشعبي- الدشداشة- يقول:"لا تلتقطي صوراً للمسجد، بل التقطي صوراً لهذه!"، ورفع ثوبه ليكشف عن قدم مقطوعة،..."هذا ما فعله صدام بنا". يبدو أن رعب عهد صدام سيبدأ بالتكشّف، القتل الجماعي والتصفية الأثنية، ونتائج الحروب، كلها أمور حقيقية عاشها العراقيون لأربعة عقود.
وخلال مسيرتي في الشوارع الفرعية، وقفت أمام منزل متداعٍ كان في يوم ما منزلاً مزخرفاً وفارهاً. كان شكله يبدو وكأن عاصفة قد احتدمت حوله، الباب معلّقة بتفاصيلها الصغيرة وتبدو مُحطمة. لكن تداعي ذلك البيت كان واضحاً أنه بفعل يد بشرية، هنا سمعت أحد العراقيين وهو يقول لي بغضب: " إنه العالم المنتمي الى هوبز!". التفتُ اليه وأجبته مستفهمة:" عذراً؟". فكرر على مسامعي:" هوبز ...هوبز"*، ومضى في طريقه دون أن يتوقف. وحين عدت الى النقطة التي انطلقت منها في فندق الشيراتون كي ألتحق بالعربات الأميركية العائدة الى القصر الجمهوري، كان السؤآل يرنّ في أذني، من كان ذلك العراقي؟.وكيف تعرّف الى توماس هوبز؟.
*ربما يشير هذا الشخص الذي تحدثت معه المؤلفة الى رأي توماس هوبز بأن الفوضى خليقة بأن تفتك بالناس أكثر مما يمكن أن يفعل الاستبداد و هو ما أسماه "حرب الجميع ضد الجميع" - المترجم.