حين اختبأ الرسام الهولندي الشاب ذو العشرين عاماً في الباخرة الذاهبة الى أمريكا، لم يكن يعلم بأنه سيُصبِح فيما بعد، واحداً من الرموز والظواهر الفنية الأمريكية والعالمية، وسيؤسس مع مجموعة من الرسامين اتجاهاً جديداً سمّاه النقاد والمؤرخون (التعبيرية التجريدية). انه الرسام الشهير وليم دي كوننغ (١٩٠٤-١٩٩٧) والذي يقفز اسمه الآن في وسائل الإعلام بسبب اكتشاف لوحة قديمة وغير معروفة له بمخزن للعاديات في بلجيكا. ابتدأت الحكاية حين أُعجِبَ شخص اسمه )يان( ببورتريت واقعي معروض في محل للأشياء المستعملة. نظر الى اللوحة فحرّكت شيئاً ما بداخله، عندها قرر شراءها بمبلغ ٤٥٠ يورو ليجمل بها غرفة المعيشة، وحين تمعن بعد فترة بتوقيع الرسام، والذي كُتِبَ كالتالي (فيم كونن ف) خطر على باله اسم الرسام الشهير، لأن اسم "فيم" يستعمل في العادة كتصغير لاسم وليم في هولندا وبلجيكا. لكن المسألة لم تكن بهذه السهولة، فهناك مشكلة في الموضوع، وهي ان هذه اللوحة وتقنيتها لا تشبه اعمال الفنان التعبيرية والتجريدية التي اشتهر بها. لكن رغم ذلك أخذ يان هذا الموضوع على محمل الجد وبدأ يبحث عن اي خيط له علاقة بالموضوع حتى وجد صورة للوحة (بورتريت رينيه) التي اكتشفها وعرضها برنامج (بين الثمين والمزيف) التابع لقناة البي بي سي، على اعتبارها تعود لنفس الرسام، ثم بيعت في مزاد كريستي بمبلغ كبير. وعند المقارنة الأولية وجد أن اللوحتين متقاربتان كثيراً، فأرسل صورة اللوحة الى البرنامج وطلب رأيهم بالموضوع، فهيأوا له لقاءً مع صاحبة لوحة رينيه لتتم المقارنة بين اللوحتين بشكل مباشر لاعتقاده بأنهما مرسومتان بنفس الفترة.
وهكذا سافر مع لوحته الى مدينة ميامي وقابل المرأة الثرية التي تملك اللوحة الأخرى، وكانت نتائج البحث والمقارنة مدهشة، لأن نوعية الألوان المستعملة في رسم اللوحتين هي نفسها وكذلك التقنية وحتى اختيار التكوين والزاوية التي رُسِمَ من خلالها المشهد. إذن هي تعود للرسام دي كوننغ (الاسم يعني الملك في اللغة الهولندية) وكان قد رسمها سنة ١٩٢٤وهو بعمر العشرين في بلدة سانت يان مولنبيك (غرب بروكسل) قبل سنتين من سفره الى أمريكا باحثاً مثل الكثيرين عن احلامه وطموحاته الفنية. وحين صرَّحَ الخبير بأن هذه اللوحة أصلية، قفز يان فرحاً وهو يقول ( كانت نظرتي صحيحة وحدسي لم يُخطئ). هذه اللوحة يُقدر ثمنها الآن ببضعة ملايين، وهي تعتبر اللوحة الوحيدة المعروفة التي قام الرسام برسمها خارج أمريكا وموقعة باسمه. والآن يسعى مالكها الجديد الى أن تُسجل اللوحة رسمياً في مؤسسة وليم دي كوننغ بنيويورك ليحصل على وثيقة تؤكد بأنها تعود للرسام الشهير. وعندها ستتضاعف قيمة اللوحة بكل تأكيد.
ينتمي دي كوننغ الى اعظم جيل عرفه الفن الامريكي، والذي يضم بالاضافة الى آخرين، كل من ارشيل غوركي وجاكسون بولوك ومارك وروثكو، الذين تميزوا بلوحاتهم الكبيرة ومعالجاتهم التي تتسم بالجرأة والحريّة. ومن أشهر أعمال هذا الرسام العبقري، السلسلة التي عنوانها (نساء) وهي مجموعة كبيرة من اللوحات تظهر فيها نساء تختفي ملامحهن تحت بقع من الألوان وعجائن الأصباغ وحركة الفرشاة الصاخبة والعنيفة، ونرى هنا ميله الواضح نحو الاعمال ذات المساحات الواسعة التي تعبر عن الروح الامريكية، مازجاً ذلك بتقاليد التعبيرية الأوروبية، ليخرج بأسلوب فريد ومؤثر.
أصيب دي كوننغ في سنواته الأخيرة بمرض الزهايمر وتوفي بعد ان حصل على المدالية الوطنية للفنون، وهي أرفع جائزة فنية تمنحها أمريكا. وبعد وفاته بسنة واحدة سُميت أكاديمية الفنون في مدينة روتردام التي ولد فيها بأكاديمية وليم دي كوننغ.