العراقيون القدماء ابتكروا "الخرخاشة" لعبة لأطفالهم ، وقد عثر على نماذج منها في مواقع اثرية كثيرة . اللعبة مصنوعة من الفخار ، في الأعلى كرة غير منتظمة ترتبط بمقبض فيه عدة ثقوب ، وبداخلها ثلاث حجرات او اكثر تصدر صوتاً حين يحركها الطفل. الغريب في الأمر ان خرخاشة أجدادنا القدماء قبل آلاف السنين، يبلغ وزنها اقل من كيلو غرام ، لذلك برزت نظرية جديدة تقول انها مخصصة لأغراض اخرى ، لاسيما انها مصنوعة من طين باركته الآلهة ، فاكتسبت الخرخاشة صفة التقديس . المقدس في ثقافات الشعوب القديمة لايمكن ان يكون لعبة بيد الزعاطيط، وفي ضوء هذه النظرية ، الخرخاشة كانت مخصصة لأغراض أخرى دينية وسياسية وعسكرية ، مع الإشارة الى ان نماذج منها كانت مخصصة للأطفال .
قبل آلاف السنين، كانت هناك جهة تتمتع بنفوذ واسع ، كأنها الحزب الحاكم في الزمن الحالي ، أمينها العام الملك او حاكم البلاد ، قيادتها: اي مكتبها السياسي ، يضم كبار الكهنة ، وقادة الجيش فضلا عن مجموعة قليلة من الأثرياء ، لكل واحد من هؤلاء "خرخاشته" الخاصة ، تمنحه الوجاهة ، تجعل الآخرين من الرعية يحسبون له ألف حساب . "الخرخاشة" خضعت للتحوير حين انتقلت الى الزمن الحاضر، لكنها احتفظت بمعانيها . يتذكر العاملون في الوسط الصحفي ان رئيس اللجنة الأولمبية في زمن النظام السابق بوصفه كان نقيباً للصحفيين ، منح المقربين منه أجهزة، تشبة التلفون النقال تصدر صوتاً لحظة إصدار الأوامر بالتوجه الى مقر الأولمبية . حامل الجهاز "الطواطة" كان يشعر بالزهو ، لأنه الوحيد يمتلك جهاز اتصال قبل دخول الهواتف النقالة الى العراق.
المرحلة الفاصلة بين استخدام الخرخاشة ،ثم الانتقال الى الطواطة، تكشف عن وجود اشخاص كانوا قريبين من صاحب القرار ، مهمتهم تنفيذ الأوامر ، سواء صدرت من كبير الكهنة او بلاط الملك ، او مقر التنظيم السياسي . في زمن الخرخاشة يسمح لحاملها بالدخول الى اماكن محظورة على الآخرين ، اما حامل الطواطة فملزم بالتوجه الى مكان محدد لحظة سماع صوت الإشارة فوراً ، لامجال للتأجيل والمخالف مهما كان اسمه ومنصبه ، سيتعرض لعقوبة الفلقة في معكسر الضبط ، الواقع بضاحية الرضوانية بأطراف العاصمة في جانب الكرخ .
في زمن استخدام الهواتف الذكية ، تخلى القادة السياسيون عن "الخرخاشات والطواطات" ، لأنها ماعادت تلبي متطلبات التعاطي مع المستجدات في الساحة العراقية ، فبرسالة واحدة من صاحب القرار موجهة الى اعضاء الكتلة النيابية، تصدر الأوامر بتبني موقف موحد تجاه قضية معينة ، مع توصية ربما تكون احيانا شديدة اللهجة بالابتعاد عن الآراء الشخصية ، وبمعنى آخر "نفذ ثم ناقش".
لطالما شكا اعضاء في مجلس النواب من هيمنة رؤساء الكتل النيابية على قراراتهم ، فأدى ذلك الى تراجع الدور الرقابي للبرلمان ، ممثلو الشعب وخلال الدورات التشريعية السابقة والحالية، اثبتوا انهم يرغبون في استعادة أمجاد الخرخاشة والطواطة ، والحديث عن التمرد على رؤسائهم مجرد "خرخشة" في سوق الصفافير .
"خرخاشة" الرفيق
[post-views]
نشر في: 4 سبتمبر, 2016: 09:01 م