TOP

جريدة المدى > عام > نابوكوف بين روسيا وأميركا

نابوكوف بين روسيا وأميركا

نشر في: 6 سبتمبر, 2016: 12:01 ص

ولد فلاديمر فلاديميروفتش نابوكوف في عائلة ارستقراطية غنية بروسيا عام 1899, وهاجر منها مع عائلته عام 1919 ( بعد ثورة اكتوبر 1917 ) ولم يعد لها أبداً , وتوفي عام 1977 في سويسرا وتم دفنه هناك . عاش نابوكوف في المانيا اولا مع اكثـر الادباء والمثقفين الرو

ولد فلاديمر فلاديميروفتش نابوكوف في عائلة ارستقراطية غنية بروسيا عام 1899, وهاجر منها مع عائلته عام 1919 ( بعد ثورة اكتوبر 1917 ) ولم يعد لها أبداً , وتوفي عام 1977 في سويسرا وتم دفنه هناك . عاش نابوكوف في المانيا اولا مع اكثـر الادباء والمثقفين الروس بعد 1917 , وهناك ظهرت اولى رواياته بالروسية ,  ثم هاجر من المانيا الى فرنسا هرباً من النازيين الالمان , وقبيل سقوط باريس بأيدي هؤلاء الألمان  هاجرالى اميركا, واصبح مواطناً اميركياً في اواسط الأربعينات ( قال نابوكوف عن نفسه  - انا كاتب اميركي ولدت في روسيا وتعلمت في انكلترا , حيث درست الادب الفرنسي ...)

وعندما برز أمام الأدباء اللاجئين الروس في أوروبا بعد ثورة اكتوبر 1917 السؤال المصيري  الكبير وهو – هل يستمرون بالكتابة بالروسية للقراء الروس المهاجرين معهم ليس إلا , أم  ينتقلون الى الكتابة  بلغات الدول التي يعيشون فيها , وبالتالي , ينشرون نتاجاتهم بين مواطنيها ؟ , وقد  اختار نابوكوف الكتابة بالانكليزية دون اي تردد , وهو الذي قال عن نفسه – ( رأسي يتحدث بالانكليزية وقلبي بالروسية واذني بالفرنسية ) , اذ انه خريج  جامعة كامبريدج الانكليزية الشهيرة , حيث درس وتخصص في الادب الروسي و الادب الفرنسي وعلم الحيوان ( الأسماك والحشرات ) , وكانت هوايته لعبة الشطرنج , وقد برز ونشر بشكل متألق ومبدع في كل هذه المجالات المتنوعة واثبت بما لا يقبل الشك انه رجل متعدد المواهب. ولهذا , فعندما يريدون تعريف نابوكوف الآن يقولون عنه انه – شاعر وروائي واختصاصي في علوم الحيوان وخبير في لعبة الشطرنج ومترجم وكاتب مسرحي وكاتب سير ذاتية وكاتب سيناريو واستاذ جامعي وناقد ادبي وصحافي وكاتب خيال علمي , وكل تلك الجوانب متفق عليها بين جميع الذين يهتمون بدراسة سيرته الذاتية وأعماله الأدبية والعلمية في العالم كله , إلا أن هناك موضوعا كبيرا بشأن نابوكوف يثير الخلافات حوله و يثير النقاشات الحادة بشأنه, وهو – هل يعتبر نابوكوف كاتبا روسيّا ام أميركيا ؟ اذ يؤكّد الروس انه كاتب روسيّ ويدخل اسمه ضمن تاريخ الادب الروسي والكتب المنهجية في روسيا , بينما يؤكّد الاميركان انه كاتب اميركي لدرجة انه توجد في اميركا جائزة ادبية كبيرة باسمه تمنحها جمعية تحمل اسمه , وذلك باعتباره رمزا للادباء الاجانب الذين احتضنتهم اميركا واصبحوا فيما بعد ادباء كبار يكتبون بالانكليزية.
نابوكوف روسي القومية بالطبع , ولد في روسيا وترعرع لمدة عشرين سنة في احضانها , وهو روسي الثقافة بكل ما تعني هذه الكلمات من معنى , و هو ابن الامبراطورية الروسية , التي مزقتها احداث القرن العشرين الهائلة من ثورة 1905 والحرب العالمية الاولى 1914 وثورة اكتوبر 1917, ومن ثٌم الحرب الاهلية داخل روسيا نفسها والجوع والقحط بعد ذلك...الخ.. , هذه الاحداث التي أدّت الى هجرة الملاين من الروس الى اصقاع العالم كافة ( والذين وصلوا حتى الى بغداد في عشرينيات القرن الماضي) . لكن نابوكوف اصبح اميركيا منذ اواسط الاربعينات وأخذ يكتب بالانكليزية , واشتهر عالميا باعتباره كاتبا اميركيا , بل ان اشهر رواية نشرها وهي ( لوليتا ) ظهرت بالانكليزية في باريس , وعلى الرغم من عدم الاعتراف بها في اميركا في البداية , الا انها تحولت فيما بعد الى اوسع نتاجاته واشهرها عالميا (وحتى مادة لدراسة علم النفس !) , وتمت ترجمتها الى العديد من لغات العالم , بما فيها لغتنا العربية , واصبحت معروفة لدرجة ان الشاعرالسوري نزار قباني كتب قصيدة عنها بعنوان – لوليتا , دون اي اشارة الى اسم كاتبها , وهناك رواية بعنوان ( اصابع لوليتا) بقلم الجزائري واسيني الأعرج , وترجمت العراقية ريم قيس كبة ( لوليتا في طهران / سيرة في كتاب) بقلم الايرانية آذر نفيسي , بل ان الكثير من القراء في العالم يعرفون الان اسم لوليتا اكثر من معرفتهم باسم مؤلفها , الذي تم ترشيحه مرتين لجائزة نوبل للآداب وكاد ان يفوز بها , ومن الجدير بالذكر هنا الاشارة الى ان الكاتب الروسي العالمي الشهير سولجينيتسن هو الذي رشحه لنيل تلك الجائزة . ومع ذلك , اود القول إني كنت حاضراً  مرة في نقاش بين مجموعة من القراء الروس حول نابوكوف بشكل عام , وحول هذه الرواية بالذات , حيث هاجموها بشدة واعتبروها رمزا للانحطاط والتفاهة و حتى الشذوذ  الجنسي غير اللائق بالانسان , ولهذا السبب – كما قالوا – اشتهرت هذه الرواية ليس الا من وجهة نظرهم , إلا أنهم جميعا تحدثوا عن نابوكوف باعتباره استاذا جامعيا ناجحا ومتميزا جدا لمادة تاريخ الأدب الروسي في الجامعات الامريكية , وأشادوا جميعا بذكائه وعمق معرفته وروحه الابتكارية في هذا المجال  , وتحدثوا بإعجاب عن مؤلفاته المنشورة في كتب منهجية جمعت تلك المحاضرات  , وقد أعجبتني جدا ( وسائل الايضاح !) التي قدمها نابوكوف عندما ألقى محاضرته حول الأدب الروسي مرة و بالشكل المبتكر الجميل و كما يأتي -
عندما دخل نابوكوف الى قاعة المحاضرات في احدى الجامعات الاميركية لالقاء محاضرته حول تاريخ الادب الروسي , أمر باطفاء كل الانوار واسدال كل الستائر في تلك القاعة , وعندما تم تنفيذ ذلك  وحل الظلام الدامس في القاعة , أمر بفتح مصباح واحد فقط وقال – هذا بوشكين , ثم أمر بفتح مصباح آخر وقال – وهذا غوغول , ثم أمر بفتح كل المصابيح الأخرى وفتح كل الستائر باجمعها وقال – وهذا تولستوي , وقد اندهش الطلبة جميعا طبعا من (وسائل الايضاح هذه ! ) , والتي استطاع نابوكوف ان يوضح للطلبة – بهذه الطريقة البسيطة والمتميزة والجميلة والمدهشة فعلا -  قيمة هؤلاء الادباء الروس الكبار واهميتهم في تاريخ الادب الروسي و دورهم الكبير في مسيرته . وما زالت كلمات أحد اساتذتي الروس الكبار ترن في اذني و قلبي وعقلي عندما قال لي مرة , ان نابوكوف هو رمز لتعاسة الادباء الروس في القرن العشرين ومأساتهم , لانه اضطر ان يتجرع الغربة , وان يكون مواطنا لدولة اجنبية , وان يكتب بلغة اجنبية , لأن الأحداث التراجيدية الهائلة في بلده روسيا دفعته الى هذا المصير , وقد تذكرت طبعا مصائر الكثير من الادباء والفنانين والمفكرين العراقيين العظام والكبار , والادباء والفنانين والمفكرين العرب العظام و الكبار ايضا , وما حل بهم نتيجة قسوة الأحداث ومرارتها في بلداننا , هذه الأحداث التراجيدية العاصفة التي مرّت ولا تزال تمرّ في  عراقنا الحبيب وعالمنا العربي المعاصر  ...  

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram