فيما خصّ هدم بيت ساسون حسقيل في بغداد
3-3
فقط في أواسط سنوات الثمانينات تحول بيت ساسون حسقيل الى صالة عرض مسرحي، سنوات طوال حمل البيت اسم "بيت منتدى المسرح"، صالة عرض للمسرحيات التجريبية، بعد 9 أبريل-نيسان 2003 ودخول المارينز لبغداد تحول البيت إلى مقر لوحدات الجيش التي تحرس العقارات والبنوك في شارع الرشيد، رغم أن المسرحيين لم يتنازلوا عنه، في عام 2010 نجح السينمائيون الشباب بإقناع وزارة الثقافة بتحويل نصف البيت على الأقل، نصفه الجميل المطل على شاطئ نهر دجلة إلى مركز سينمائي لهم، وافقت الوزارة، فيما بقي الجزء الأمامي ثكنة لنوم الجيش. إذن: الجيش بمواجهة أحلام شباب لا سلاح عندهم غير الكاميرا.
أية مفارقة: قبل عامين استبشر الناس خيراً لتسلم امرأة منصب أمانة بغداد، ذكرى علوش، قيل أنها مهندسة معمارية، حريصة على تحسين صورة وجه بغداد. ها هما عامان يمران ، لا مشروع وعدت به أمانة العاصمة تحقق ولا إنجاز كبير، لكن ها هي الأمانة تفاجئنا في يوم الجمعة الماضي المصادف 6 آب 2016 بقرارها منح منزل مؤسس النظام المالي في العراق وأول وزير مالية في حكوماته ساسون حسقيل وسط بغداد إلى أحد المستثمرين بعد هدمه، وعدّت المنزل "غير تراثي"، كما جاء على لسان مسؤول الإعلام في الأمانة حكيم عبدالزهرة في تصريح صحفي، وحسب قوله "المنزل شيّد قبل 100 عام في شارع الرشيد وسط بغداد ومُنح لأحد المواطنين لاستثماره"، مؤكداً أن "الاستثمار جرى بشكل قانوني"، ولأن العراق بلد العجائب، جاء الردّ على القرار هذه المرة من وزارة السياحة والآثار التي اتهمت أمانة العاصمة بـ "التجاوز على القانون" باستثمار منزل تراثي. وحسب تصريح السيد سعد حمزة، رئيس قسم التحريات التراثية في دائرة الآثار والتراث التابعة لوزارة السياحة والآثار "هناك جدل بشأن قضية منزل أول وزير مالية في العراق ساسون حسقيل"، مستغرباً "من اعتبار المنزل غير تراثي من قبل أمانة بغداد". وعد حمزة، هدم المنزل ومنحه لمستثمر "تجاوزاً من قبل أمانة العاصمة على القانون"، مؤكداً أن "المنزل يتكون من جزءين أحدهما يعود لوزير المالية والآخر لنجله البيرت ساسون حسقيل". رغم ذلك، لم ينقذ البيت من الهدم حتى وزارة رسمية في حكومة المحاصصة اللصوصية السيئة السمعة والصيت في العراق!
في السنوات الأخيرة من حياته، أراد ساسون أفندي أن يختم حياته بإصدار عملة عراقية وطنية، ولتحقيق ذلك أعد خطة بنظام دقيق، بالفعل وقبل أن يموت بشهور قليلة في ربيع عام 1932 نجح ساسون في مسعاه (ساعده في تحقيقها يهودي آخر هو إبراهيم الكبير مدير عام المحاسبة المالية آنذاك)، وأصبحت النقود العراقية هي المتداولة بدلا من الروبية الهندية والليرة التركية. كان ذلك أحد الأحلام الكبيرة التي انطلقت من هذا البيت، قبل أن تعقبها أحلام أخرى لعراق آخر، ممكن أن يكون كل شيء، باستثناء أن يكون بالشكل الذي عليه اليوم. وما لم يعرفه ساسون أفندي حسقيل، أن زمناً سيأتي، لا دولة تحكم فيه، ولا نظاماً مالياً سيسود، بدل ذلك سيجلس على عرش السلطة قطاع طرق ولصوص، كل ما جلبوه للبلاد في سنوات حكمهم التي مرت (والتي ستأتي) هو خراب في خراب .. وتهديم للأحلام.
هدم بيت ساسون حسقيل، وعلى يد أمينة بغداد، قيل أنها مهندسة من بغداد، هو هدم لآخر صرح شاهد على مجتمع تعايشت فيه الأديان في يوم ما إلى جانب بعضها بسلام: مسلمون ويهود وصابئة ومسيحيون وشبك وغجر ويزيديون وكل ما يمكن أن يخطر من مذاهب وطوائف على بال، إذا لم يكن في المحصلة هدماً لآخر رمز لحلم واحد من أحلامنا "الموءودة" بالسلام في بلاد وادي الخرابين .... العراق!
يُنشر المقال بالتزامن مع نشره في الصحفية الألمانية الذائعة الصيت فرانفكورتير الغماينة