مع أن السياسيين الإسلاميين وقادة الأحزاب في العراق كثيرا ما يستشهدون بجملة القس الذي شاهد رأس الحسين، مرفوعاً على الرمح، وقال عبارته الشهيرة( لو كنا نملك أثر قدم حمار السيد المسيح لعظّمناه.) - في احتفال شفاهي للواقعة الشهيرة - إلا أنهم لم يحفظوا لنا شيئاً مما شكل ويشكل المشهد العبقري في ذاكرتنا العراقية، ففي بحر سنوات عشر ونيف، اتوا بجهلهم وحماقتهم على كثير مما هو أثري وحضاري ومدني، من خلال استخفافهم بجملة القوانين التي شرعت وسنت منذ عشرات السنين بقصد حفظ الأثر هذا، إذ ليس كل ما سُنَّ وشرّع في عهد صدام حسين كان بإرادة منه، إنما هو فعل من أفعال العقل المدني العراقي الخالص.
أسعدني حديث أحد الزملاء الصحفيين وهو يحدثني عن فريق من جهة دينية اخذ على عاتقه تصوير مخطوطات مكتبة باش أعيان الأثرية، وعظم فيهم استقدامهم لأحدث أجهزة التصوير، والجهة هذه تشكر على فعلها الاستثنائي، ذلك لأن البيت ظل مهجوراً، والمخطوطات عرضة لعوامل كثيرة، لا يستبعد منها الرسقات والحريق والرطوبة والأرضة، لكنني صدمت بتوقف المشروع هذا، ذلك لأن أحد الأكاديميين العاملين ضمن الفريق صرّح بجملة، قد تكون عفو الخاطر، أو هي ضمن توجّه ما حيث قال ما فهم آنذاك:" الفريق هذا، يحاول أن يجعل من البصرة مدينة شيعة خالصة" ثم جرى حديث مفاده ان الأفلام التي صورت المخطوطات اخذت الى بغداد، وتوقف العمل. أمر محزن بكل تأكيد.
ذات يوم كتبت عن أحد (المحسنين) الذين تبرعوا بترميم قبة قديمة، تقع على الطريق بين أبي الخصيب ومركز البصرة، وكنت أشدت بفعله، فقد تبرع ومن ماله الخاص، بإحاطة أصل القبة الآيلة للسقوط بالطابوق والحديد، لكنني أذكر أن قبة أخرى كانت تجاور القبة هذه، لم يبقَ منها إلا حائطها السفلي، وأن المكان هذا كان مقبرة واسعة بين البساتين الكثيرة التي كانت عامرة الانسان والنخل والفاكهة ، وان نهرا قريبا منها كان يجري بماء عذب فرات، وأن المكان دالة على مشهد ديني، صوفي، وهو من أعمال أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ربما، لكنني فجعت حين علمت بان المحسن هذا، بنى بيته على أرض المقبرة هذه، مع الذين بنوا وتجاوزوا على أرض المقبرة. تُرى، لماذا لم نعثر على من يحفظ لنا القبة والبستان والنهر، لماذا؟ ولماذا زوحم انساننا البصري الطيب بمثل هؤلاء؟!
في المقهى البائس، مقهى الأدباء والمثقفين بالبصرة، بحي البجاري الشعبي، حيث تتهالك البيوت وتطفح مياه المجاري أجلسني الدكتور صالح العامري (عراقي، هاجر وأقام في أميركا) ليحدثني عن ثلاثة اأمكنة مهمة للمواطن الأميركي، تحرص الحكومة على تأمينها له، هي البيت ومكان العمل والمقهى (الستار باكس) فتعجبت من وجود المقهى، وحرص الحكومة على تأمينها، فقال كيف ذلك وهي المكان الثالث في حياة المواطن الأميركي، حيث انه يجد فيها معظم ما يحتاجه من وسائل الراحة، ليس آخرها (انترنيت مجاني، صحف ومجلات، مشروبات وأطعمة خفيفة، وو) وعلى مقاعدها الأنيقة الفاخرة سيكون بمقدور المواطن إنجاز الكثير من افعاله، وتحقيق آرائه،بل وبإمكان الطلاب اخذ دروس خصوصية في جانب من المكان هذا، فضلاً عن يسر وسهولة الوصول اليها، حيث ستكون النادلات الجميلات باستقباله هناك. هل أقول بأن حكومتنا تعفنت، تفسخت ولم تعد تصلح لفعل ما، فهي وبعقلية الطائفي المريض أهملت الأثر العراقي القديم وبروح جاهلية غير متحضرة لم تُحسن التعامل مع الحاضر المدني.
في الخراب العراقي
[post-views]
نشر في: 17 سبتمبر, 2016: 09:01 م