TOP

جريدة المدى > عام > أحياناً في الفن يتدفق الزمن الى الوراء ولا نستطيع تجنب رؤية الماضي

أحياناً في الفن يتدفق الزمن الى الوراء ولا نستطيع تجنب رؤية الماضي

نشر في: 18 سبتمبر, 2016: 09:01 م

في معرض جديد يستكشف ديغا وهاجسه مع الباليه
ادغار ديغا ، المحافظ التقليدي ، الرجل الذي كان يتصرّف ، أحيانا ، بغرور هائل ، أدهش ادمون دو غونكور ، عندما زار الكاتب مرسمه في 1874 . انتصب على رؤوس أصابع قدميه ، وهو يشرح فنه ، دائرا بيديه مقلدا حركات راقص

في معرض جديد يستكشف ديغا وهاجسه مع الباليه

ادغار ديغا ، المحافظ التقليدي ، الرجل الذي كان يتصرّف ، أحيانا ، بغرور هائل ، أدهش ادمون دو غونكور ، عندما زار الكاتب مرسمه في 1874 . انتصب على رؤوس أصابع قدميه ، وهو يشرح فنه ، دائرا بيديه مقلدا حركات راقصي الباليه التي استحوذت عليه بشدة . كان ذلك وميضا من الإنسانية غير متوقع من هذا الشديد التمسّك بآداب المجتمع . كتب غونكور ، أن ديغا يمزج (( جماليات فنان الرقص مع جماليات الرسّام )) . ديغا في تنورة باليرينا أمر لا يمكن تصديقه ، لكن محاولة تخيل ذلك هو شيء مسلٍّ .

تعاد رواية هذه الحكاية في كاتالوج معرض "ديغا والباليه : حركات تصويرية " ، الذي افتتح في الرويال أكاديمي في لندن . العرض الذي أشرف عليه المؤرخ ريتشارد كيندال ، وهو الأخير من استكشافاته العديدة عن الفنان الفرنسي الصعب ، المخالف ، والمتناقض . في المعرض الحالي ، يضع كيندال ديغا بجانب بيكاسو، وكان شارك في 1996 بالإشراف على معرض أساسي لديغا في الناشينال غاليري . يركز المعرض الجاري على هوس ديغا بالرقص والراقصين ، كما يشتمل على الحياة ما وراء مرسم الفنان وقاعة تمارين الرقص ، والمواجهة بين الفنان ووسيلته وموديلاته . انه ينتقل من المسرح الى الشارع ، ويكشف كيف يبدو العالم من خلال التصوير الفوتوغرافي والسينما ، في بانوراما مفعمة بالحركات واللحظات ، وفي لمحات مجمّدة ، متعاقبة . طرق جديدة للنظر تتجاوز الفني . تفصح صور ديغا الخاصة عن فنان ينتهز التكنلوجيا لرؤية أبعد وأفضل ، حتى لو فشل البصر .
ديغا الإنسان ، هو هناك ، أيضا . نحن نراه ، معتمرا قبعة وسيجارة تتدلى من شفتيه ، خارجا من دورة مياه عامة في باريس في 1889 ( لماذا التقط جوزيبه بريمولي هذه الصورة ؟ أمر غير واضح . ربما كان بابارازّو من الروّاد ) . نحن نرى ديغا البوليفاردي [ من يكثر التردد على جادّات باريس ]  ، ونراه مع اصدقائه في تسعينات القرن 19 ، مرتجلا لقطة صورية في حديقة قصر . كان بوسعه أن يكون مضحكا ، وأيضا شديد البأس . الأكثر إثارة في المعرض هي قصاصة من فلم قصير عام 1915 ، يظهر فيها ديغا في أواخر العمر . قريب من العمى ، يجتاز بصعوبة عمود شارع في باريس ؛ يبدو قريبا جدا ، بعيدا جدا . عُرِض الفلم في نهاية العرض ، من بين افلام عن فرقة باليه أوكرانية ، ولقطات ملوّنة باليد للأخوين لوميير عن امرأة تؤدي رقصة دوّامة ، وقصاصات من فلم لأناس يركضون ، يقفزون ويرقصون مع حيوان ــ ولو بطريقة حمقاء .
قد نتصوّر ديغا شخصية بعيدة ، من القرن التاسع عشر ، لكنه لم يمت حتى عام 1917 . ديغا ، كان رجلا صاحب مواقف عتيقة ، تظهر الآن بعض منها ، كما ظهرت للعديد من أصدقائه ، كمواقف شائنة . معاداته للسامية ، أحاديثه القومية الصاخبة ، كانت جانبا من شخصيته ؛ فنه ، كان الجانب الآخر .
يمكن أن يكون هناك القليل جدا من الناس ممن يقفون وينظرون لراقصته الصغيرة في عمر الرابعة عشرة ( 1880- 81 ) ــ وهو نحت برونزي لباليرينا مراهقة ترتدي تنورة راقصة باليه من نسيج الشاش وشريط من الساتان معقود على شعرها البرونزي ــ  دون أن يحسّوا إنهم في حضرة شيء عظيم وغامض . رأسها مرفوع ، يداها خلف ظهرها ، وتعبير من الجرأة يرتسم على محياها . حتى الغضون في ردائها تبدو ذات شأن . يبدو نحت ديغا لدنا ومتحركا على نحو مغالى فيه ، ومع ذلك ، مجمدا في أوضاع مستحيلة وديناميكية الى الأبد .
الأفضل من وصف نحت لراقصة في حركة  هو أن يطوف المشاهد حوله ، كما يبحر ديغا مطوّفا حول الشخصية في رسوم لراقصات منظور اليهن من كل زاوية ، وتتحد الرؤى الجزئية مع بعضها في النحت نفسه . في معرضه الحالي عن بيكاسو وديغا ، يرى كيندال في هذا النحت نموذجا لشخصيات لوحة بيكاسو " نساء أفنيون " ( 1906 ) . ما يدور ، يرجع عائدا .
أصبح ديغا بلا شك واعيا بالتكعيبية ، بغض النظر عمّا إذا كان تعرّف على تلك اللمحات المتعارضة ، التي تتحرك بتناوب من الجريدة الى النظارتين ، من المنضدة الى الوجه ، عندما تتناوب إهتماماته بشكل غير معروف . لكن في الفن ، أحيانا ، يتدفق الزمن الى الوراء ولا نستطيع تجنب رؤية الماضي في ضوء ما سيأتي لاحقا . كان ديغا والتكعيبيون معا متأثرين بالتصوير الفوتوغرافي والأفلام المبكرة . ديغا الرجل ، كان رجعيا ، لكن فنه ، كان يبدو انه منبجس من ذهنه المقسّم الى أجزاء مختلفة . في أية حال ، ليس هناك سبب يمنع الفنان الراديكالي من أن يكون محافظا اجتماعيا . والعكس يمكن أن يكون صحيحا تماما .
لكن ما يعني أن ندعو ديغا راديكاليا ؟ كانت بيئة الباليه قوام الفن الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر ، لكن ديغا كشف السر وراء بهرجة هذا الفن ، حتى وهو جالس في المقاعد الأمامية من المسرح . رسم ديغا مجموعة من اترابه " المشتركين " ــ رجال أثرياء يُسمح لهم بحضور التمارين والإختلاط بالراقصين بعد الأداء ــ وهم يراقبون عرضا من إنتاج روبير لوديابل في 1871 . إنه هناك ، يرسم رؤوس النظارة في الصف الأول والاوركسترا تحت ، مع الأداء الطائش للراقصات ، في ثياب راهبات ، مهتاجات على خشبة المسرح ، ومرئيات من خلال غابة من الباسونات  [ المزامير الخشبية ]  في قسم آلات النفخ في الاوركسترا.  ثلث عمق اللوحة هو كله عبارة عن رؤوس ، شعر ، ياقات وأعناق . والأكثر ، آذان ، صف من الآذان ، كل منها تنتمي الى رجل ثري من عشّاق الباليه ، يمكن تمييزه .
واحد منهم ، لامبال يتجاهل الأداء كله ، رافعا منظاره المكبِّر يتفقد ما يحدث في شرفات المسرح خارج كادر اللوحة . انه الرقص ، الذي يجري في الأعلى ، على خشبة المسرح ، والذي يبدو خليطا ، يشبه اللهو.  هنا ، كل شيء يدور حول الجو والمكان والحضور ، وهناك ، في مرسم ديغا المظلم ، المغبّر والمملوء بأشياء مركومة بغير نظام ، كل المشهد يبدو مترابطا في تخطيطات الرسام .
كل شيء كان ينتهي هناك . ربما كانت قاعة تمارين الرقص تستهوي الرسام ، لأنها مكان يشبه مكانه الخاص،  منطقة عقلية كما هي جسدية . وهو مكان يشترك بصفات كثيرة مع الفراغ المسطّح لقماشة اللوحة أو فَرْخ ورق ، تنتظر أن تُبعث فيها الحياة بشئ ما جديد . كان ديغا يعرف ويخطط ويرسم الراقصين كأفراد وأيضا مجموعة من الأجساد ، متجمعين وفرادى ، مثل قافية ، ومجاميع إيقاعية ولحظات انفرادية . يمرّن الراقصون جسمهم قبل الشروع بالرقص ، يرتاحون ، يمعنون النظر في أنفسهم . لوحات ديغا عن الرقص المفضلة عندي هي تلك التي رسمها في قاعات التمارين ، مع نوافذها العالية التي تطل على الريف وعلى مناظر بعيدة للمدينة ، ومساقط الضوء وآثار الأقدام المطبوعة على الكُناسة ، تصرّ على الأرضية المعتمة ، والجدران الطويلة ، القذرة رقعها من الجص المتشظي . هذه المساحات من وقع الأقدام وضربة عصا أستاذ الرقص ، من ألأنفاس والإجهادات ، هي أمكنة جوهرية .
عندما يحيي الراقصون فضاءً ، فإنهم يحيون أيضا لوحات ديغا . راقصة جالسة تحدق ذاهلة بالأرض . أخرى ، ترفع ساقها على الحائط بجانب النافذة ، تتمطى لتبعد التشنج . في هذه اللحظة السكونية ، ندبة صغيرة من ضوء برتقالي- وردي تخدش حذاء الباليرينا ، فتحثّ على فراغ هائل ، داكن يحتل تقريبا نصف اللوحة . كان ديغا يفهم الفراغ ، الفضاء بين الأشياء ، التوقفات والإنقطاعات ، التجمّع والتفرّق .
فيما العرض يتقدم ، يتعثر عمل ديغا ، مع تعثر بصره . لوحاته الأخيرة من الباستيل تتوهج تحت الإضاءة الحديثة للغاليري ، تشكيلاتها مكتظة مثل سطوح لوحاته الباستيلية ، معرقَلة باللطخات والخدوش والألوان المفرطة . حتى لقطات الفلم العتيق تبدو أكثر عصرية . أن ما أعجبني هو فراغ ديغا ، المؤكد بلمسة إنسانية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram