في معرض جديد يستكشف ديغا وهاجسه مع الباليه
ادغار ديغا ، المحافظ التقليدي ، الرجل الذي كان يتصرّف ، أحيانا ، بغرور هائل ، أدهش ادمون دو غونكور ، عندما زار الكاتب مرسمه في 1874 . انتصب على رؤوس أصابع قدميه ، وهو يشرح فنه ، دائرا بيديه مقلدا حركات راقص
في معرض جديد يستكشف ديغا وهاجسه مع الباليه
ادغار ديغا ، المحافظ التقليدي ، الرجل الذي كان يتصرّف ، أحيانا ، بغرور هائل ، أدهش ادمون دو غونكور ، عندما زار الكاتب مرسمه في 1874 . انتصب على رؤوس أصابع قدميه ، وهو يشرح فنه ، دائرا بيديه مقلدا حركات راقصي الباليه التي استحوذت عليه بشدة . كان ذلك وميضا من الإنسانية غير متوقع من هذا الشديد التمسّك بآداب المجتمع . كتب غونكور ، أن ديغا يمزج (( جماليات فنان الرقص مع جماليات الرسّام )) . ديغا في تنورة باليرينا أمر لا يمكن تصديقه ، لكن محاولة تخيل ذلك هو شيء مسلٍّ .
تعاد رواية هذه الحكاية في كاتالوج معرض "ديغا والباليه : حركات تصويرية " ، الذي افتتح في الرويال أكاديمي في لندن . العرض الذي أشرف عليه المؤرخ ريتشارد كيندال ، وهو الأخير من استكشافاته العديدة عن الفنان الفرنسي الصعب ، المخالف ، والمتناقض . في المعرض الحالي ، يضع كيندال ديغا بجانب بيكاسو، وكان شارك في 1996 بالإشراف على معرض أساسي لديغا في الناشينال غاليري . يركز المعرض الجاري على هوس ديغا بالرقص والراقصين ، كما يشتمل على الحياة ما وراء مرسم الفنان وقاعة تمارين الرقص ، والمواجهة بين الفنان ووسيلته وموديلاته . انه ينتقل من المسرح الى الشارع ، ويكشف كيف يبدو العالم من خلال التصوير الفوتوغرافي والسينما ، في بانوراما مفعمة بالحركات واللحظات ، وفي لمحات مجمّدة ، متعاقبة . طرق جديدة للنظر تتجاوز الفني . تفصح صور ديغا الخاصة عن فنان ينتهز التكنلوجيا لرؤية أبعد وأفضل ، حتى لو فشل البصر .
ديغا الإنسان ، هو هناك ، أيضا . نحن نراه ، معتمرا قبعة وسيجارة تتدلى من شفتيه ، خارجا من دورة مياه عامة في باريس في 1889 ( لماذا التقط جوزيبه بريمولي هذه الصورة ؟ أمر غير واضح . ربما كان بابارازّو من الروّاد ) . نحن نرى ديغا البوليفاردي [ من يكثر التردد على جادّات باريس ] ، ونراه مع اصدقائه في تسعينات القرن 19 ، مرتجلا لقطة صورية في حديقة قصر . كان بوسعه أن يكون مضحكا ، وأيضا شديد البأس . الأكثر إثارة في المعرض هي قصاصة من فلم قصير عام 1915 ، يظهر فيها ديغا في أواخر العمر . قريب من العمى ، يجتاز بصعوبة عمود شارع في باريس ؛ يبدو قريبا جدا ، بعيدا جدا . عُرِض الفلم في نهاية العرض ، من بين افلام عن فرقة باليه أوكرانية ، ولقطات ملوّنة باليد للأخوين لوميير عن امرأة تؤدي رقصة دوّامة ، وقصاصات من فلم لأناس يركضون ، يقفزون ويرقصون مع حيوان ــ ولو بطريقة حمقاء .
قد نتصوّر ديغا شخصية بعيدة ، من القرن التاسع عشر ، لكنه لم يمت حتى عام 1917 . ديغا ، كان رجلا صاحب مواقف عتيقة ، تظهر الآن بعض منها ، كما ظهرت للعديد من أصدقائه ، كمواقف شائنة . معاداته للسامية ، أحاديثه القومية الصاخبة ، كانت جانبا من شخصيته ؛ فنه ، كان الجانب الآخر .
يمكن أن يكون هناك القليل جدا من الناس ممن يقفون وينظرون لراقصته الصغيرة في عمر الرابعة عشرة ( 1880- 81 ) ــ وهو نحت برونزي لباليرينا مراهقة ترتدي تنورة راقصة باليه من نسيج الشاش وشريط من الساتان معقود على شعرها البرونزي ــ دون أن يحسّوا إنهم في حضرة شيء عظيم وغامض . رأسها مرفوع ، يداها خلف ظهرها ، وتعبير من الجرأة يرتسم على محياها . حتى الغضون في ردائها تبدو ذات شأن . يبدو نحت ديغا لدنا ومتحركا على نحو مغالى فيه ، ومع ذلك ، مجمدا في أوضاع مستحيلة وديناميكية الى الأبد .
الأفضل من وصف نحت لراقصة في حركة هو أن يطوف المشاهد حوله ، كما يبحر ديغا مطوّفا حول الشخصية في رسوم لراقصات منظور اليهن من كل زاوية ، وتتحد الرؤى الجزئية مع بعضها في النحت نفسه . في معرضه الحالي عن بيكاسو وديغا ، يرى كيندال في هذا النحت نموذجا لشخصيات لوحة بيكاسو " نساء أفنيون " ( 1906 ) . ما يدور ، يرجع عائدا .
أصبح ديغا بلا شك واعيا بالتكعيبية ، بغض النظر عمّا إذا كان تعرّف على تلك اللمحات المتعارضة ، التي تتحرك بتناوب من الجريدة الى النظارتين ، من المنضدة الى الوجه ، عندما تتناوب إهتماماته بشكل غير معروف . لكن في الفن ، أحيانا ، يتدفق الزمن الى الوراء ولا نستطيع تجنب رؤية الماضي في ضوء ما سيأتي لاحقا . كان ديغا والتكعيبيون معا متأثرين بالتصوير الفوتوغرافي والأفلام المبكرة . ديغا الرجل ، كان رجعيا ، لكن فنه ، كان يبدو انه منبجس من ذهنه المقسّم الى أجزاء مختلفة . في أية حال ، ليس هناك سبب يمنع الفنان الراديكالي من أن يكون محافظا اجتماعيا . والعكس يمكن أن يكون صحيحا تماما .
لكن ما يعني أن ندعو ديغا راديكاليا ؟ كانت بيئة الباليه قوام الفن الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر ، لكن ديغا كشف السر وراء بهرجة هذا الفن ، حتى وهو جالس في المقاعد الأمامية من المسرح . رسم ديغا مجموعة من اترابه " المشتركين " ــ رجال أثرياء يُسمح لهم بحضور التمارين والإختلاط بالراقصين بعد الأداء ــ وهم يراقبون عرضا من إنتاج روبير لوديابل في 1871 . إنه هناك ، يرسم رؤوس النظارة في الصف الأول والاوركسترا تحت ، مع الأداء الطائش للراقصات ، في ثياب راهبات ، مهتاجات على خشبة المسرح ، ومرئيات من خلال غابة من الباسونات [ المزامير الخشبية ] في قسم آلات النفخ في الاوركسترا. ثلث عمق اللوحة هو كله عبارة عن رؤوس ، شعر ، ياقات وأعناق . والأكثر ، آذان ، صف من الآذان ، كل منها تنتمي الى رجل ثري من عشّاق الباليه ، يمكن تمييزه .
واحد منهم ، لامبال يتجاهل الأداء كله ، رافعا منظاره المكبِّر يتفقد ما يحدث في شرفات المسرح خارج كادر اللوحة . انه الرقص ، الذي يجري في الأعلى ، على خشبة المسرح ، والذي يبدو خليطا ، يشبه اللهو. هنا ، كل شيء يدور حول الجو والمكان والحضور ، وهناك ، في مرسم ديغا المظلم ، المغبّر والمملوء بأشياء مركومة بغير نظام ، كل المشهد يبدو مترابطا في تخطيطات الرسام .
كل شيء كان ينتهي هناك . ربما كانت قاعة تمارين الرقص تستهوي الرسام ، لأنها مكان يشبه مكانه الخاص، منطقة عقلية كما هي جسدية . وهو مكان يشترك بصفات كثيرة مع الفراغ المسطّح لقماشة اللوحة أو فَرْخ ورق ، تنتظر أن تُبعث فيها الحياة بشئ ما جديد . كان ديغا يعرف ويخطط ويرسم الراقصين كأفراد وأيضا مجموعة من الأجساد ، متجمعين وفرادى ، مثل قافية ، ومجاميع إيقاعية ولحظات انفرادية . يمرّن الراقصون جسمهم قبل الشروع بالرقص ، يرتاحون ، يمعنون النظر في أنفسهم . لوحات ديغا عن الرقص المفضلة عندي هي تلك التي رسمها في قاعات التمارين ، مع نوافذها العالية التي تطل على الريف وعلى مناظر بعيدة للمدينة ، ومساقط الضوء وآثار الأقدام المطبوعة على الكُناسة ، تصرّ على الأرضية المعتمة ، والجدران الطويلة ، القذرة رقعها من الجص المتشظي . هذه المساحات من وقع الأقدام وضربة عصا أستاذ الرقص ، من ألأنفاس والإجهادات ، هي أمكنة جوهرية .
عندما يحيي الراقصون فضاءً ، فإنهم يحيون أيضا لوحات ديغا . راقصة جالسة تحدق ذاهلة بالأرض . أخرى ، ترفع ساقها على الحائط بجانب النافذة ، تتمطى لتبعد التشنج . في هذه اللحظة السكونية ، ندبة صغيرة من ضوء برتقالي- وردي تخدش حذاء الباليرينا ، فتحثّ على فراغ هائل ، داكن يحتل تقريبا نصف اللوحة . كان ديغا يفهم الفراغ ، الفضاء بين الأشياء ، التوقفات والإنقطاعات ، التجمّع والتفرّق .
فيما العرض يتقدم ، يتعثر عمل ديغا ، مع تعثر بصره . لوحاته الأخيرة من الباستيل تتوهج تحت الإضاءة الحديثة للغاليري ، تشكيلاتها مكتظة مثل سطوح لوحاته الباستيلية ، معرقَلة باللطخات والخدوش والألوان المفرطة . حتى لقطات الفلم العتيق تبدو أكثر عصرية . أن ما أعجبني هو فراغ ديغا ، المؤكد بلمسة إنسانية.