هل الرواية آخذة بالاخفاق كما تنبأ لها بورخس ؟ رحل بورخس ولم يكتب رواية واحدة في حياته ! هذه الدهشة تصيب أي متتبع لكاتب إشكالي كبير مثل خورخي لويس بورخس .. لقد صنع جمالية مبهرة للقصة القصيرة واقترن اسمه بها أينما حل .. بورخس الذاهب في رحلة لم تكتمل ،
هل الرواية آخذة بالاخفاق كما تنبأ لها بورخس ؟ رحل بورخس ولم يكتب رواية واحدة في حياته ! هذه الدهشة تصيب أي متتبع لكاتب إشكالي كبير مثل خورخي لويس بورخس .. لقد صنع جمالية مبهرة للقصة القصيرة واقترن اسمه بها أينما حل .. بورخس الذاهب في رحلة لم تكتمل ، صاغ حياة أدبية مثيرة ولكنه لم يتوجها باثر روائي واحد ..
كان غريبا هو بورخس حينما يعزف عن ذلك ، لدرجة انه هضم فن القصة القصيرة وصار مرجعا فيها بعد ان اظهر فائق قدرة في كتابتها ادت به الى توصيفه بلقب الاول دون منافس مع وجود اسماء كبيرة كتبت القصة كالذي كتبه ، لكنه ظل الأحمق الأول او لنقل المتمرد الاول في فن القص .. لا يمل من التفاصيل الغريبة والغامضة والألغاز المحتاجة الى أجوبة دائما ، هو غريب في فنه كما هو غريب في حياته التي عاش جلها في عمى وفقدان كامل للبصر . فنان في اللعب على معمار الجمل والعبارات التي تعطي صورة قصصية ليس من السهولة الحصول عليها ابدا .. بورخس المتعامل مع التراث ، أي تراث ، ولا يشترط ان يكون أرجنتينيا او لاتينيا ، بل حتى لو كان عربيا او هنديا .. التراث ذاك ، كان منهلا له في كثير من التوقفات والتفردات .. فهو يكتب عن الف ليلة وليلة وكأنه يعيش أيامها وأحداثها ويبدع في تصورها ويعدها كإحدى القصص التي يحترمها في حياته .. يحب الملاحم كثيرا ولكنه يكره الرواية .. الجواب كان مجلجلا ..
لا رواية في مصاف الملاحم !
ولكن هل يجب ان تكون الرواية في منزلة الملاحم كالأوديسا مثلا ؟
فوجئت وانا اقرا "فن الشعر" ترجمة صالح علماني من منشورات دار المدى .. الكتاب عبارة عن ست محاضرات لبورخس وكانت فن القصص والحكايات إحداها .. فيها يتحدث بصراحة تامة ، صراحة المقتدرين عن كره الرواية وبأنه حاول كتابة سطرين او اكثر من ملحمة ! ويقول بان جويس وبطله عوليس لم يعد احد يتذكرهما رغم ما كتب عن الرواية وذاع صيتها .فيما كانت شخصيات دانتي وشكسبير في الذاكرة دوما. وان كان قد أورد هذا المثال فأين تكمن الروايات الاخرى في حساباته او لنقل كيف كان بورخس يقيم عالم الرواية الفسيح ؟ يقول بورخس :
"أظن أن الرواية آخذة بالإخفاق. أظن أن كل هذه التجارب في الرواية، وهي شديدة الجرأة والأهمية ـ فكرة تبدلات الزمن مثلاً، وفكرة أن تكون الرواية محكية من قبل شخصيات مختلفة ـ كلها تتوجه نحو اللحظة التي نشعر فيها بأن الرواية لم تعد ترافقنا ولكن هناك شيئاً مرتبطاً بالحكاية والقصة، شيء يبقى ويستمر على الدوام. لا أظن أن البشر يتعبون أبداً من سماع وحكاية القصص. وإذا ما رافق متعة سماع القصص، احتفاظنا بمتعة إضافية من كرامة الشعر وجدارته، فإن شيئاً عظيماً لا بد أن يحدث عندئذ " . إذا الشعر عند بورخس ربما أهم من فن الرواية ، والشعر في تفكيره له كرامة وجدارة ، وهذا ما يرفع قيمته الى مصاف الرقي الأدبي الإنساني المواظب لحركة الإنسان منذ ازله .. هذا بورخس ، المبتعد عن الرواية بجريرة خلود الملحمة . فالملحمة خالدة كخلود البشر والكون وخلود الذائقة في أي زمان . ولكون الرواية قد كتبت ودونت في عصور لاحقة ولكنها لم تصل الى ذروة الفعل الانساني المسفوح على جيد البشرية منذ عرفت الكتابة والشعر . في صناعة الشعر ، كان ثمة قول خفي يجيد بورخس ممارسته ، افول الوميض الساطع للرواية على مر الحقب . ليس من رواية خلدت واستمرت خالدة ، انه خلود مؤقت ، هش ، ربما يطير مع أول تغير في احوال المجتمعات السائرة نحو الدهشة التقنية . وهكذا يكون بروست وجويس وديستوفيسكي وميلفل وفرجينا وولف وهمنغواي وعشرات .. قد كتبوا الرواية اعتقادا بخلودها عبر كل الأزمنة .. الأزمنة التي توالدت فيها الرواية الى انساق ومستويات لم تكن معروفة أبدا ..من هنا كان لابد من إحداث طفرة فنية ما كانت قط موجودة ، كتغيير السرد صعودا الى تمثيل الملحمة شعرا او نثرا بطريقة معاصرة .. واعتبار فن الملحمة الفن الموازي للرواية التي اتسعت آفاقها وتطورت وأصبحت بمثابة فن العصر الذي لم يدانيه فن . وربما صارت الكتابة الروائية اكثر انتشارا من الشعر نفسه حين بدت تحاكي الانسان ومعاناته وجبروت القهر والظلم الذي كان عنوانا لكل العصور .. لكن بورخس الذي يميل الى القصة القصيرة والشعر ، لم يكتب رواية واحدة ظنا منه انها ستنسى يوما ما وربما لن يصيبها النجاح كما يعتقد او كما تسجلها الوقائع وقد تدرج ضمن الاعمال الروائية المكتوبة ولكنها قد لا تدرج في لائحة الروايات الخالدة والمبهرة . بورخس المتمرد في فنه وحياته ، كان يتجنب الرواية وهو المتمكن من كتابتها والمؤهل لذلك حتما .. لكن الدلائل تؤكد على عدم نيته أصلا في الولوج الى ذاك العالم الفاخر المليء بالجمال والإثارة والإبداع ولقناعته بأن احلامه اكبر من الرواية واعظم من السرد برمته .. انه ينظر إلى الشعر باعتباره الأفق الموصل الى الملحمة والطريق المعبد لها . فيكون الشعر مقربا من تطلعات بورخس المنحاز لكتابة الملحمة التي ستخلده في تاريخ الكتابة الأدبية وفي تاريخ الكتابة الشخصية كما خلد اصحاب الملاحم وليكون اول كاتب معاصر يكتب الملحمة وينتشر في الملكوت الانساني ويتخلد . ولما كانت الملاحم الشعرية قد أخذت طريقها الى الخلود بوصفها الصنيع الخارق للمألوف ، فإنها كانت أكثر قربا من الإنسان لأنها جعلت منه مادتها الرئيسية وكان في جميعها بطلا متوجا بالفضيلة والقوة والحكمة . اما الجانب الاخر الذي رآه بورخس ، ان معظم الملاحم وخاصة الإغريقية ، كتبها مكفوفون . وانه تأثر كل التأثر بسير المكفوفين من الأدباء والشعراء ، فانعكس على تمسكه بالملحمة كجنس له أولويته في الجذب والتأثير.. لذا اعتقد بورخس بان فقد البصر لم يفقد البصيرة عند اولئك الكتاب مثل جون ميلتون أبرز شعراء الأدب الإنجليزي في القرن السابع عشر. ناهيك عن تأثره المذهل والعجيب بهوميروس صانع الالياذة والاوديسا ، الاعمى الخالد الذي لم يضاهه أي خلود أدبي في التاريخ . واعتقد ان بورخس ربما ايقن بان إلياذة هوميروس ، ظلت معروفة على مدى ألاف السنين ، وأكثر شهرة من روايات القرن العشرين الحديثة التي ذاع صيتها، لكنها سرعان ما فقدت بريقها وتهاوت الى المواقع الخلفية ، لأنها لم تكن بعظمة الملاحم او الأساطير التي طغت على آداب كل العصور . وهكذا يكون بورخس المتأثر بالتراث العربي المتمثل بدرة التاج وألف ليلة وليلة وغيرهما ، قد عرف ان كثيرا من الكتاب والشعراء العميان العرب ، مازالت أثارهم تتردد الى الآن كبشار بن برد وامريء القيس وابن منظور وابي العلاء المعري .. ومؤكد انه قرأ مقولة الجاحظ الشهيرة "ان اصحاب البصيرة يدركون ما لا يدركه المبصرون" ، فيكون الشعر في رأي بورخس القاص ، هو صانع الملاحم والأساطير ، وصانع عظمة الكتاب والأدباء اكثر من كل الروايات التي كتبت ومازالت تكتب ، مات بورخس ولم يكتب الملحمة التي تمنى ان يكتبها ، ولا كتب رواية واحدة تحمل اسمه..