اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > عمارة "ادفيش عبود".. استحضار الماضي حداثياً

عمارة "ادفيش عبود".. استحضار الماضي حداثياً

نشر في: 24 سبتمبر, 2016: 12:01 ص

قد يكون مبنى "ادفيش عبود" (1955)، في شارع الرشيد عند منطقة الشورجة، من المباني المعروفة جيدا، والمألوفة بصريا لكثـر من مستخدمي وزوار الشارع المهم ...و"الجليل" بالعاصمة العراقية. ولعل تلك المألوفية (والحظوة...ايضا)، تعودان، بالأساس، لشكل المبنى الحداث

قد يكون مبنى "ادفيش عبود" (1955)، في شارع الرشيد عند منطقة الشورجة، من المباني المعروفة جيدا، والمألوفة بصريا لكثـر من مستخدمي وزوار الشارع المهم ...و"الجليل" بالعاصمة العراقية. ولعل تلك المألوفية (والحظوة...ايضا)، تعودان، بالأساس، لشكل المبنى الحداثي ولـ "فورمه" الاسطواني غير العادي، والى لونه الأبيض الناصع، وربما لقدمه واستمرار حضوره في المشهد لفترة طويلة نوعا ما، هو المشيد في منتصف الخمسينات. لكن كثـراً، كما نتوقع، لا يعرفون اسم معماره، مع انه أحد مؤسسي عمارة الحداثة العراقية ورائدها الطليعي منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

نحن نتحدث، بالطبع، عن "عبد الله احسان كامل" (1919-1985) مصمم المبنى (بالاشتراك مع رفعة الجادرجي)، ومصمم مبانٍ عديدة، عمارتها التي اعتبرها، شخصيا، من كنوز عمارة الحداثة العراقية، وبعضها يمكن ان يكون مفخرة تصميمية لعمارة الشرق الأوسط عموما.
لقد نأى عبد الله احسان كامل سريعا بنفسه، منذ ان كان يدرس العمارة في مدرسة "ليفربول" بإنكلترا في الاربعينات، عن العادي والمطروق في الممارسة المعمارية، واتجه بجد وحرص شديدين نحو قيم الحداثة المعمارية، هي التي كانت وقتها تعد ظاهرة "غريبة" حتى في إنكلترا ذاتها، ناهيك عن غيابها الواضح في عمارة العراق الاربعيني! ولحسن الصدف (التي اقيّمها بالصدف السعيدة!)، التقى عبد الله احسان كامل، بعد ان أنهى دراسته المهنية سنة 1943 ورجوعه الى بلده، مع المعمار الإنكليزي "فيليب هيرست" Philip Herst أحد أنصار الحداثة المجدّين، والعاملين في العراق، وقتها، بمصلحة السكك الحديدية؛ والذي معه، استطاع معمارنا ان يكرس خطاه في تلك المقاربة المعمارية، التي سيكون أحد روادها المهمين و"معلم" جيل كامل من المعماريين العراقيين عن معنى الحداثة المعمارية، ودلالة قيمتها الاسلوبية.
بقي عبد الله احسان كامل وفياً لاختياراته المعمارية على طول مراحل حياته المهنية، كما واصل نشر قيم الحداثة في الخطاب المعماري المحلي، بمختلف الطرق والوسائل المتاحة.  وقد قبل، على غير عادة، بما عُرف به المشهد العراقي وقتذاك، ان "يتشارك" مع معماريين آخرين في اجتراح كثير من الاعمال المعمارية. لنذكر جهده التصميمي المميز في مبنى المصرف الزراعي بالرشيد، مشاركاً صديقه وزميله في المهنة المعمار جعفر علاوي؛ وكذلك مع قحطان المدفعي في مصرف الرهون (وزارة المالية سابقا، بالقرب من شارع الجمهورية)، عدا عن اعماله العديدة بالاشتراك مع رفعة الجادرجي. لا يتعين ان ننسى اهتمام عبد الله احسان كامل وشغفه الجاد والمخلص بمهنة التدريس وبتأهيل أجيال كاملة من المعماريين والمهندسين العراقيين، عندما أسس مع آخرين قسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة بغداد، كأول مدرسة معمارية عراقية، عام 1959 (بعد ان عمل استاذا في تلك الكلية لفترة طويلة منذ الاربعينات)؛ وقد ظل أستاذا في القسم لحين احالته للتقاعد في الثمانينات. كل هذا يجعل من الحديث عن مبناه هذا، في شارع الرشيد، بمثابة تحية وتكريم لذكراه العطرة، وللقيم النبيلة التي ارساها عبد الله احسان كامل في الوسط المهني وفي مسار العمارة العراقية الطويل.
يتوق عبد الله احسان كامل لان يكون مبناه، الذي كُلف بتصميمه في الشورجة، ذا لغة معمارية متميزة ولافتة في آن، لكنه يسعى، في الأهم، ان تكون تلك اللغة حداثية ايضاً؛ يتساوق أسلوب معالجاتها التصميمية مع ما يتسم به مجرى العمارة العالمية من قيم جديدة. ومن اجل بلوغ تلك الاهداف، التي وضعها المعمار لنفسه؛ أتت عمارة مبنى ادفيش عبود ملبية لتلك الطموحات من خلال طريقة استخدام نوعية المنظومة التركيبية وموادها الانشائية، ما اضفى ميزة آخرى، على مهام ترسيخ اختلاف أسلوب عمارته عن سياق مألوفية البيئة المبنية المجاورة. كما ان نمط تشكيلات "لوحة" الكاسرات المكررة على جوانب المبنى (وهي الإضافة التصميمية التي ساهم بها رفعة الجادرجي)، كرست حداثة عمارته، وساهمت في تبيان تفرده التصميمي.
على ان اللافت في حلّ عمارة المبنى، يبقى أسلوب معالجة كتلة الطوابق العليا، وكذلك اصطفاء "فورم" محدد لها. اذ بدا، ذاك، للوهلة الأولى حلاً غير متوقع، وربما استثنائياً وقتذاك في الممارسة المعمارية المحلية. كما ان تضاد شكل هذه الكتلة القوي مع مكعب القسم الأسفل، هو الذي منح الاخير، في اعتقادنا، ميزة خاصة، اضفت عليه اصالة شكلية، عززت من هيئته المتفردة واكسبته حضورا مؤثراً. ففي تعامله مع القسم العلوي للمبنى، اختار المعمار شكلا اسطوانيا "لتغليف" فراغاته الإدارية. ولكي يكون الانتقال سلساً ومنسجماً ما بين كتلة مكعب القسم الأسفل، واسطوانية الكتلة العلوية، فان المعمار يخلق "فجوة" فاصلة بينهما، تتيح له تحقيق مثل هذا الانتقال بصورة متسقة. يوزع المعمار احياز المكاتب الإدارية في القسم الاسطواني الى أربع شقق مكتبيه مع خدماتها في كل طابق. وثمة تشابه في المساحة لكل شقتين من الشقق الاربع. الا ان الامر المثير هنا، هو اصطفاء أسلوب توزيع الشقق الذي يتبع منظومة خاصة، معنية بـ "دوران" مواقع شقق كل طابق من طوابق القسم الاسطواني الأربعة. وبهذا القرار التصميمي، فان جميع الشقق المكتبية تنال اطلالات متنوعة، ومختلفة الواحدة عن الأخرى. وبالإضافة الى هذه الميزة، فإن واجهة المبنى، وتبعاً لذلك، حَظيت في هذا الجزء الاسطواني بمعالجة تصميمية بدت شديدة الاختلاف عن مجاوراتها، وبديناميكية آسرة، مبعدة تماما إمكانية ظهور اية رتابة مضجرة، يمكن لها ان "تنشأ" جراء استعمال النسق الدارج في ترتيب فتحات النوافذ في الواجهة المجترحة.
في احدى حواراتي مع عبد الله احسان كامل، سألته ذات يوم من سني الثمانينات، عن باعث ومغزى اختياره للشكل الاسطواني غير العادي، كفورم للكتلة العليا لمبناه هذا، فأجاب سريعا، بانه سعى وراء الحصول على "تناغم" بذلك الفورم الدائري، مع اشكال المئذنة المجاورة، مستحضراً، أيضا، بهذا القرار التصميمي شكل قبة المبنى العالية. والمعمار، هنا، يقصد، بالطبع، مبنى "المدرسة المرجانية" المجاورة لمبنى "ادفيش عبود". (المشهورة، خطأً، بـ "جامع مرجان"؛ هي التي يعود تاريخها الى 1356 م أي الى الفترة الجلائرية التي أعقبت فترة الدولة الايلخانية، المتأسسة إثر سقوط بغداد العباسية سنة 1258. ويتراءى لي، بأن مخططها انطوى على درجة كبيرة من النضج التصميمي، عاداً إياه من ضمن مخططات المدارس البغدادية الفاتنة، هي التي، مع الأسف، لم تحظ بالدرس أو المتابعة. مع انها تذكر دوما، وكما هو معروف، بمناسبة حادث تهديم جزء منها، بدواعي استقامة شارع الرشيد سنة 1944). أي ان المعمار ينزع، هنا، لاستحضار "شاهد" المبنى التاريخي، ليجعل منه موضوعا لتأويل شكل مبناه المستقبلي، مجترحا لنا "تناصاً" فطناً، مشغول ببراعة، في عملية "استنطاق" خلاقة يستحضر فيها الماضي ليكون عاملاً مؤثراً في خلق جماليات المشهد الحالي!
وأود هنا، في الأخير، الإشارة الى معاينة ميدانية قمت بها شخصيا، وحرصت بها التشديد عن قيمة القرار المتخذ، وصوابيته، بصدد "اسطوانية" الكتلة العلوية.  معلوم، ان الجهات الرسمية التي نفذت عملية هدم جزء من مبنى المدرسة المرجانية، شيدت ثلاث قباب جديدة، ذات اشكال تحاكي الى حد كبير اشكال القباب الثلاث التاريخية التي تم هدمها.  الا ان تلك الجهات، عادت في وقت لاحق، وشيدت قبة في مكان القبة الوسطية، ولكن بهيئة تتماشى مع هيئة قبة كانت موجودة اصلاً في مبنى المدرسة، وانطوت على وجود "رقبة" طويلة نوعا ما، ذات زخرفة آجريه رائعة، وبحزوز غائرة، كناية عن مواقع نوافذ طولية. وبهذا فقد اشتمل مبنى المدرسة على كتلتين بشكل أسطواني وهما: المئذنة، وهذه القبة ذات الرقبة العالية. وقد سعيت، في احدى زياراتي الى بغداد، ان أزور مبنى المدرسة المرجانية، واصور مع مئذنة المدرسة وقبابها الثلاث، بالإضافة الى "الحضور" المميز للكتلة الاسطوانية لمبنى عبود، واعترف باني لم اشعر، كما افترض لم يشعر غيري بـ "غربة" تكوينية، يمكن ان تتأتى جراء شكل المبنى غير العادي. بالعكس، ثمة انسجام تام يمكن للمرء ان يحسه، وهو يشاهد "عمل" تلك الأسطوانة البيضاء وتآلفها الشديد مع شواهد المكان. وبهذا، فقد قدم المعمار لنا، درساً عميقاً عن كيفية استحضار قيم الماضي وشواهده ومن ثم توظيفها، بعد تعريضها لتفسير حداثي، حتى تكون جزءا من المشهد الحاضر ولكن بنكهة ماضوية.  
وعبد الله إحسان كامل، مصمم مبنى "ادفيش عبود"، ولد في بغداد عام 1919. انهي دراسته المعمارية عام 1943 من مدرسة العمارة في ليفربول بالمملكة المتحدة، كما حصل على شهادة الماجستير من هارفرد بامريكا (1952). اسس، مع محمد مكية وآخرين، قسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة بغداد عام 1959، بعد ان كان، قبلها، مدرسا في كلية الهندسة لسنين عديدة (منذ عام 1944). وشغل منصب مدير مركز التخطيطي الحضري والاقليمي (1968-72)، كما اسس مع رفعة الجادرجي وإحسان شيرزاد مكتب "الاستشاري العراقي" في 1953، لكنه تركه عام 1965. تعد غالبية المشاريع التي صممها عبد الله، بمثابة نماذج مميزة لعمارة الحداثة البغدادية (والعراقية بصورة عامة)، مثل: محطة قطار بعقوبة (بالاشتراك مع فيليب هيرست) <1945>، ومبنى مصرف الرافدين بالبصرة <1948>، والمصرف الزراعي بالسنك ببغداد (بالاشتراك مع جعفر علاوي) <1949>، ودارة حسين جميل بالمسبح ببغداد <1953>، وعمارة منير عباس في الباب الشرقي ببغداد (بالاشتراك مع رفعة الجادرجي)، <1956>، ومبنى مصرف الرهون عند شارع الجمهورية ببغداد "الذي شغلته سابقا وزارة المالية" (بالاشتراك مع قحطان المدفعي <1957>. وبالطبع رائعته التصميمة "مبنى خان الباشا الصغير" (1956)، في شارع السموأل ببغداد. كما انه خطط مدينة المأمون في بغداد <1957>، وله ايضا يعود تخطيط مدينة آزادي في اربيل؛ وغيرها من المشاريع العمرانية والمعمارية المميزة. توفي في بغداد سنة 1985.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. رفعة الجادرجي

    لقد ذكر د.خالد السلطاني ان دار حسين جميل هي من تصميم عبدالله احسان كامل، ولم يكن هنالك اي دور لعبدالله في تصميم الدار ، لأنني صممتها قبل ان تأسيس المكتب مع عبدالله.

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram