للصمت في القصيدة مستويات وذرائع عدة، عندما يترك الشاعر قليلاً من البياض، بين مقطعين أو أكثر، بين كلمتين أحياناً، وهذا تدخل الآخر/الشاعر في بصريات النص وبصر القارئ، ليبدو كل ما يحيق بالكلمات من بياض فضاءً مرسوماً يمثل عنصراً بصرياً، ضمن العناصر الأخرى، التي تقود القصيدة إلى أقصاها: طاقتها على الاستحواذ. استحواذ المعنى الجمالي على منتجها ومستهلكها معاً، لذا تصبح القصيدة "بريد هوى" عبر الضفاف المتقابلة، المتجاورة، حيث يقيم الكثير من الكائنات.
إذا كان هذا النوع من الصمت يقع داخل القصيدة، فما هو نوع الصمت الذي يقع خارجها لكي يطرقه الشاعر حتى يكتشف الصوت، كما يعلمنا الشاعر الصيني لوـ جي؟ (1) كل هذا قابل للحوار، والحوار قيمة جمالية أخرى، عندما يكسر الصندوق الحجري ليعثر على "اللؤلؤة".
لا أحد لديه المفتاح، يا صاحبي.كل منا يحاول قفلاً ليفتحه، أو حالماً بفتحه.الأقفال سجيّة وجودية، وما نحن سوى صنّاع مفاتيح.من تقصد بـ"نحن" يا صاحبي؟نحن، كلنا، الناس، من يشتغلون بالشعر ومن يشتغلون بقراءته، وما الشعر إلا أحد المستويات العليا للمعرفة الجمالية.ثمة طرق متعددة للمعرفة، حسياً أو فكرياً، أو عبر كليهما، معاً، فما أن "تحس" الدفء، وأنت في كوخ يغرق بالمطر والبرد، ليحيلك الدفء، فوراً، إلى جماليات النار، لـ"تفكر" مليّاً في "سر"ها.
من هنا يبدأ الافتراق بين نوعين من الناس: الأول، يكتفي بالتأمل (التفكير) ـ هذا إذا تجاوز مرحلة "الحس" بالدفء، بينما النوع الثاني هم من يشرعون بإيجاد المفاتيح.الأول هم الأكثرية والثاني هم الأقلية.تحس الدفء، أولاً، وغاستون باشلار يأتي تالياً.سؤال: هل طرق المعرفة متاحة للجميع، الأكثرية والأقلية؟ وفي كل المجتمعات؟يتعلق هذا السؤال بالحرية.. مثلما يتعلق جوابه بالحرية أيضاً."ليست الكثرة من إمارات الحق ولا القلة من علامات الباطل".كم عدد الآلهة؟كم عدد الأنبياء؟السؤال بشأن طرق المعرفة لا يحيل، إذن، إلى جماليات الشعر، حسب، بمعزل عن جماليات فنية وفكرية أخرى، خصوصاً الفلسفة.هكذا، نقع في أشد كمائن سوء الفهم، عندما تتشابك المفاهيم الفنية والأنشطة الاجتماعية، بينما تدور جميعها في مدار ملتبس يدعى الحرية.. الحرية بما هي سؤال فسلفي قائم.هنا، جملة من الإكراهات الصلبة، وقد تضطر، السلطة الثقافية إلى "تقبل" مفاهيم أخرى، بل ظواهر أخرى، لكنها تنظر بريبة شديدة إلى "الجمالي".. والشعر في صميمه.الجميل غريب وسط هذه العجلة الهائلة التي تسحق العالم من أقصاه إلى أقصاه.. عجلة العولمة."وإذا كان فعل النقد، الاشتغال الأرأس للفلسفة، يعني فعل التمييز، فيستحسن التمييز بين الثقافي والجمالي". (2)
صار "الثقافي" نشاطاً تجارياً، وثمة اقتصاد سياسي للثقافة، عرض وطلب ومقاولات وإعلانات وسمسرة ومعاهدات، في سوق عالمية كبرى، تتاجر بمنجزات الثقافة الإنسانية، كلها، ومن ضمنها الفنون الجميلة، فـ"الثقافي" استثمار عابر للقارات يعرض علينا الجمالي ولكنه لا ينتجه وإن تدخل في إنماط انتاجه، في شروطه وأساليبه وهندسته وتوزيعه.كل عجلة هائلة يرافقها هدير هائل.. وعليك، يا صاحبي، أن تبحث عن "الصوت" وسط هذا الهدير.
ولكي تكتشف الصوت عليك، أولاً، اكتشاف الصمت كي تطرقه.
)1) فن الكتابة-تعاليم الشعراء الصينيين، توني بارنتسون وتشاو بينغ – ترجمة عابد اسماعيل (دار المدى).
(2) ما الجمالية، مارك جيمينيز-ترجمة شربل داغر (المنظمة العربية للترجمة).
أطرق الصمت لتكتشف الصوت
[post-views]
نشر في: 26 سبتمبر, 2016: 09:01 م