2-3
كما ذكرت في عمود الأسبوع الماضي، كانت إسطنبول المحطة الثانية لشاعر الإسكندرية الأوحد، كونستاتين كفافيس، بعد إقامته القصيرة في لندن، وكيف أنه لم يشأ أن يترك عنواناً له فيها، فهو قد طلب من أصدقائه مثلاً مراسلته على عنوان بنات عمه. كانت العائلة مجبرة على الهرب في يوليو/تموز 1882 بسبب اندلاع اضطرابات معادية للأجانب في الاسكندرية انتهت إلى ارتكاب مذابح ضد السكان المسيحيين. بالتوازي من ذلك راح الإنكليز يقصفون المدينة. وسط ذلك الجو هرب من يستطيع الهرب. الأم هاريكليا كافافيس وأبناؤها الستة، بينهم كونستانتينوس، الأصغر صعدوا في بداية شهر يوليو/تموز السفينة التي حملتهم إلى المدينة الواقعة على مضيق الفوسفور. كانت العائلة في تلك الفترة تمر بظروف معيشية قاسية، فبعد موت الأب كافافيس في 1870 فقدت مصدر الرزق الأساسي.هكذا هربت العائلة، الأم وكونستاتين وإخوته الخمسة باتجاه اسطنبول، حيث استقبلها جده على مضض. كان الجد تاجراً بالجواهر. ولكن عندما تمر التجارة كما هي الحال غالباً في فترة كساد يرقد على فراش المرض ويعيش على القروض. في أزمان مثل هذه يتحول العيش في الفيلا المطلة على البحر إلى نوع من التعذيب لعدم وجود خشب كاف للتدفئة: "التفكير بماما وبك، أنتما اللذان تعيشان في حال بائسة جداً في يانيكوي يحزنني بصورة خارقة" كتب جون كافافيس (الذي من أجل كسب المال عاد مباشرة إلى الإسكندرية للعمل) إلى أخيه كونستانتينوس.أي هبوط اجتماعي عاشته العائلة التي اعتادت قبل ذلك على امتلاك الطباخين والخدم! ربما لذلك السبب لم يذكر كونستانتينوس الفيلا تلك في رسائله بالمرة. لكنه رغم ذلك وصف هذا المكان الذي حرضه على كتابة الشعر، مثل عاشق: "حتى من رائحة الأرض ستسكر". في اسطنبول لم يكتشف كافافيس موهبته الشعرية فقط، إنما ميوله الجنسية المثلية. وهذا الجانب أخفاه أيضاً. لماذا شطبت اسطنبول الشاعر من ذاكرتها؟ لم تفعل المدينة ذلك فقط مع كونتستانتينوس كافافيس، إنما فعلت ذلك مع جورج فوتياديس أيضاً، مع فنانين آخرين، أمثال كاراتودوريس و مابروكورداتوس، أولئك اليونانيون الذين أغنوا كوزموبوليتية هذه المدينة. ما أن ينطق المرء باسم أحد اليونانيين القدماء، حتى يرن الاسم مثل صدى ضرب الأقدام على حيطان قاعات كبيرة خالية. اليوم يعيش في اسطنبول قرابة 2000 يوناني. ذات يوم، كانوا أكثر من ذلك العدد بمئة مرة. أغلب اليونانيين هم من الشيوخ. لا أحد من الشباب يريد البقاء هنا، الطائفة اليونانية صغيرة جداً، لكي تعد أحداً منهم بالمستقبل.من يريد أن يأخذ على عاتقه العناية بالمكان الذي أقام فيه الشاعر، الراديكالي النزعة ومؤسس الشعر اليوناني الحديث؟ أين يجب البحث، حيث كل الآثار قد محاها الزمن؟ فقط يورغوس أدوسوغلو يستطيع المساعدة. رجل طاعن بالسن، يلبس بنطلون بيجامة نوم مخططة، رُسم وشم على ذراع يده اليمنى، جلس مستنداً إلى كرسي عريض يصر عند تحركه. أدوسوغلو الغاطس في الكرسي، يتحدث الإنكليزية والألمانية والفرنسية، وعندما يبدأ في الحديث عن الأسماء القديمة "للعوائل الأرستقراطية في حي ينيكوي، كما يسميهم، يصبح من الصعب مقاطعته أو إيقافه عن الكلام. "لقد كانوا يبدلون ملابسهم مرتين أو ثلاث مرات في اليوم"، يقول تلك الجملة بحسرة، ولأكثر من مرة واحدة.أدوسوغلو ذاته لم يكن من طائفة النبلاء، أمه جاءت من المدينة الروسية "سيباستوبول"، بينما جاء الأب من "قيصري". أما هو فقد كان "كارامانلي". ذلك هو الاسم الذي يُطلق على كل أولئك الذين يكتبون اللغة التركية بالحروف اليونانية. هل كان أدوسوغلو يحسد السادة الأنيقين؟ إذا كان الجواب نعم، فهو كان قد نسي ذلك، فباستثناء الكرب لم يبق شيء من ذلك الوقت. يحزنه جداً اختفاء الجميع كأن المدينة لفظتهم مع كل موجات التهجير والطرد العديدة التي حدثت بعد الحربين العالميتين والسنوات التي بينهما. وخلال أزمة جزيرة قبرص.
يتبع
عندما تمحو المدينة آثار الشاعر
[post-views]
نشر في: 27 سبتمبر, 2016: 09:01 م