عندما تختلط المفاهيم في اذهان الكثيرين وتتداخل التفاصيل مع بعضها وتطرح المعلومات بشكل اعتباطي وبدون دراية، فذلك يؤدي -ان صح التعبير- الى ما يشبه التسمم الثقافي او الفني. فالامر لا يختلف كثيراً بين شخص يتناول قطعة جبن متروكة على الطاولة ومصابة بالعفن دون معاينتها او التأكد من سلامتها وبين الترويج لأفكار ملفقة او كتابة معلومات غير صحيحة وتفاصيل غير موجودة. فهذا تسمم وذلك تسمم إيضاً، ولا تنفع مع الحالتين سوى المعالجة والتصويب وتشخيص الأسباب التي أدت وتؤدي الى ذلك. فكثرة وسهولة النشر في مواقع التواصل الاجتماعي أدت الى اختلاط الحابل بالنابل، وأصبحت هذه المواقع ساحة مفتوحة لمن يريد ان يُظهر مواهبه العظيمة وعبقريته في الكتابة، وهنا اقصد الكتابة عن الفن التشكيلي وتاريخه ومدارسه وما يحيط به من تفاصيل . فلا عجب ان نرى إنَّ بيكاسو قد اصبح بقدرة قادر فناناً سريالياً! أو نقرأ ان فان غوخ ينتمي الى المدرسة التعبيرية، وهو في الحقيقة فنان مابعد انطباعي والتعبيرية ظهرت بعده بسنوات طويلة. والبعض يتمادى باستعراض معلوماته في تاريخ الفن ويكتب بمرارة حول كيفية إهداء فان غوخ اذنه لحبيبته بعد ان قطعها بموس الحلاقة. وما حصل هو ان هذا الفنان قد قام بقطع أذنه بسبب نوبة من نوبات المرض التي كان يمرُّ بها، حيث امتلأت ارضية المرسم بالدم، ونقل بسرعة الى المستشفى للعلاج. وهناك من يكتب بأن ريمبرانت هو اعظم رسّام واقعي، وهو في الحقيقة ينتمي الى عصر الباروك في القرن السابع عشر، وتسمية (المدرسة الواقعية) لم تظهر إلا بعد مئتي سنة من ذلك! وبالتحديد سنة ١٨٥٥ حين صاح غوستاف كوربيه ( سوف أتوقف عن رسم الملائكة، فأنا لم أرَ ملاكاً في حياتي) وقد أعتبر النقاد ومؤرخو الفن ان لوحتيه (عمال يقطعون حجارة الطريق) و( في مرسم الفنان) كانتا ايذاناً بظهور هذه المدرسة الفنية التي تركت الملامح والمناخات الكلاسيكية واهتمت بتفاصيل الواقع.
في احدى المرات استغربت كثيراً حين حدثني احد الشباب بشكل درامي عن معاناة موديلياني امام بيكاسو المتجبر الذي كان يشعر بغيرة كبيرة منه ومن أعماله وحاربه كثيراً لأن موديلياني (حسب رأيه) كان يرسم أفضل منه. فقلت له (انت تتحدث عن الممثل أندي غارسيا الذي مثل فيلماً عن حياة هذا الفنان، ولا تتحدث عن موديلياني نفسه!). ولا ادري ان كان يعرف بان صناعة الفيلم تتطلب في الغالب تغيير بعض التفاصيل وتحوير بعض احداث الواقع حسب رؤية المخرج. لا احد يشك بعبقرية موديلياني، لكن هذا الشاب الذي كان يحدثني لا يعرف ان بيكاسو هو اعظم فنان على مرِّ العصور، حيث اثَّرَ على آلاف من الفنانين الكبار في العالم.
اصبح النشر متاحاً للجميع، والكثيرون يريدون النشر دون مراجعة ماينشرون او التأكد من صحته مع الأسف. العملية ببساطة متناهية هي ان كنت تريد الكتابة عن الفن التشكيلي مثلاً فعليك بمعرفة الكثير مما يحيط بهذا الفن المتشعب وهذا التاريخ الطويل من الجمال، ان تعرف الاختلاف بين الركوكو والكلاسيكية الجديدة، او الفرق بين مابعد الانطباعية وماقبل الروفائيلية، لا ان تتحدث عن بيكاسو من خلال لوحاته التي تراها في الكتب بل خلال زيارة متاحفه في باريس او برشلونة او ملقا. كيف تكتب عن قوة اعمال جياكوميتي بدون الشعور بعظمتها وهيمنة حجمها وانت تقف الى جوارها في متحف روما او متحف كرولر مولر، علي سبيل المثال؟ وهكذا مع كل الفنانين والاعمال الفنية والتفاصيل المتعلقة بها. كم هو مدهش ان تطرح افكارك ورؤيتك حول ما تشاهده وتشعر به ويؤثر على روحك وذائقتك، فالجمال في النهاية هو ان تختبر الجمال بنفسك.
حين تَختَبرُ الجمال بنفسك
[post-views]
نشر في: 30 سبتمبر, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...