TOP

جريدة المدى > عام > الصورة الفوتغرافية.. رؤى وتداعيات

الصورة الفوتغرافية.. رؤى وتداعيات

نشر في: 3 أكتوبر, 2016: 12:01 ص

 
إن علاقة الصورة بالتاريخ ، متأتية من علاقتها بالزمان والمكان اللذين يُشكلان بنية كادرها أو محتواها  ،ولأنهما ارتبطا في تأسيس التاريخ عبر التوثيق ، انطلاقاً من فعالية الأحداث في المكان ، وتشكل الإطار الزمني للأحداث ، مما دعا مثل هذا التجس

 

إن علاقة الصورة بالتاريخ ، متأتية من علاقتها بالزمان والمكان اللذين يُشكلان بنية كادرها أو محتواها  ،ولأنهما ارتبطا في تأسيس التاريخ عبر التوثيق ، انطلاقاً من فعالية الأحداث في المكان ، وتشكل الإطار الزمني للأحداث ، مما دعا مثل هذا التجسيد والتمثل من الانسحاب إلى الدلالة في ما توفر ضمن الصورة من إشارات وعلامات يمكن أخذها بنظر القراءة ، باعتبارها إشارات قارّة لمعنى معيّن . وينسحب هذا على الحيوات الأخرى ، سواء كانت موضوعية أو فنية جمالية . فهي شريحة من المكان والزمان على حد قول ( سوزان سونتاغ ) أي أنها تؤسس لأبعاد واسعة في تاريخ الأشياء ، ومنها المجتمع والبلدان والأفكار .

فهي بذلك تكتسب حيويتها من حيويتيهما . من هذا يتوجب النظر إليها على وفق ما تقدمه من براهين على ماضي بعيد أو قريب أو زمن معاصر . المهم أن الصورة تتداول معنى يرتبط بالتاريخ بشكل أو بآخر . إنها لم تكن نوعاً من التخييل ، وإنما هي وسيلة للوقوف على حراك العالم وتقييمه من خلال حقائق كادر الصورة . الصورة هنا تدفعنا للتعامل مع الوجود تعاملاً معرفياً ، عبر فهم جدلية المعرفة التي تنطوي عليها ، لأنها ومن خلال محتوياتها ، تقدم لنا معرفة بالأشياء وبالمجريات التي لم نعشها قط ، أو كنا عشناها وبتقادم الزمن انمحت عن ذاكرتنا أو شابها النسيان . وبذلك تكون الصورة  شاهداً على زمن منصرم ، عاكسة حيوات المكان وما يتأسس داخله من علاقات خاصة وعامّة ، سواء الطبيعية منها أو الأنثروبولوجية .
إن مسار الزمن ، بتقلباته الإيجابية والسلبية ، يعمل على فقدان الكثير من الحقائق ، بما هو ظاهرة للمحو ، فتبقى الصورة إزاء هذا عامل شحذ الذاكرة وايقاظها عبر عيّنات أكثر نصاعة وحقيقة  . والأهم من ذلك ، نجدها تقدم مجموعة ثوابت ( رموز) تكون خير دالات على التوصل والاقتراب من  أصول الأشياء المفقودة من حياتنا ، إنها أساساً ترتبط بالذكريات الحية والجميلة ، وذات الوقع المؤثر. فسيميائيات الصورة ركيزة مهمة وعامل  اختزال للزمن بما تقدمه من تبئيرات قادرة على ثبوت حقيقة المعرفة بالأشياء ، وبالتالي استحضار مفرداتها بشكل حيوي ، بل التأسيس عليها وفق العيّنات التي يحتويها كادرها  لأنها بمثابة تاريخ الأمكنة و النماذج . فالتعرّف عليها من خلال الصورة يعني التعرّف على تاريخها الممحو . فما يمكن التأكيد عليه هنا أن الصورة تقدم رؤى فلسفية تُسهم في معرفة وإدراك العالم وجدلية العلاقة بين أطرافه. فالمصوّر وحده الذي يدرك العالم حسب تصوّرات ( ميرلوبونتي) فهو من يجعلنا ندرك العالم من خلال عيّناته في الصوّر ذات السعة بالمكان والزمان ، أي بالتاريخ عامّة. إن الادراك لدى المصوّر نابع من مستوى ثقافته ومعرفته بالأشياء . من هذا تقدم فن التصوير ؛ من حِرفة للعيش إلى فن قائم بذاته . ارتكز أساساً في تحوّله على بنية معرفية ورؤيويه عند الفنان (المصوّر) .
أما ما يخص التخييل في الصورة ؛ فإنه مرتبط بالتقنية التي يحيل المصوّر من خلالها فعل أداته الفنية باتجاه خلق التأثيرات التي من شأنها الارتقاء بمحتوى الصورة ، بما يُفعّل امكانيات التعبير عن رؤى وأفكار ومنها الفلسفية المتعلقة بالعلاقة الجدلية بين الإنسان ومجاله . فبالرغم من أنها تقدم واقعاً معاشاً ومنظوراً ، لكنه لا يخلو من بنية التصوّر، أي  أنها لا تبتعد عن منطق  التخييل . ويتم هذا عبر اشتغال مخيّلة المصوّر ضمن تقنية الصورة ، سواء في اختيار اللقطة ، أو العناية الفائقة في توزيع الضوء والظِل . فهو خالق لعالم مرئي الآن ، وسوف يُرى في الآتي من الزمان وفق بنية معرفية جدلية للرائي البصري . إن الصورة ووفق ما ذكرنا تتعامل مع الأصل بفعل تشخيص خواصّه وممكناته الواقعية والفنية . فهي وإن اقتربت من فعل المرآة للنظر وعكس الأشياء ، إلا أنها تتخذ لها استقلالية تعبيرية بذلك ، فـ (نرسيس)مثلاً خدعته مرآة الماء ، ليس لكوّنها لم تعكس شكل وجهه ، بل هيمنة وهم الرؤى الذي وقع فيه في كوّن المرئي شخصا آخر ، لأنه لم يتعرّف على سمات وجهه من قبل . وهذا يرتبط بالجانب المعرفي حصراً من خلال البُعد الفلسفي . فهو لم ير وجهه قط ، لأنه لم ير مرآة قط . أي لم تكن له معرفة تُعينه على استخلاص البنية التي واجهته . لذا فالشبيه الذي ظهر على صفحة الماء وجده وجهاً غريباً . بمعنى ثمة قصور في فهم الذات . إن هذا يقودنا إلى معرفة الأشياء التي تقود إلى معرفة الذات ، لأننا أساساً نعرف الأمكنة والظواهر الممحوة ، أو مروي لنا عنها . فالصورة فعل معرفي يتطلب اتساعاً معرفياً . من هذا تواءم وجود الصورة كجنس في التعبير مع باقي الأجناس . لأنه اعتمد فعلاً لم يترك للصدفة تنفيذ ما يُريد تجسيده ، وإنما أخضع هذا إلى المعرفة والصدفة في رؤية المشاهِد التي تقوده نحو بئر الأسئلة ، والتي لا يتوفر جواباً لها سوى باللقطة الفنية التي تختزل المشهد بمجموع المكوّنات والرموز.
لقد أكد ( سعيد بنكَراد)على كون الصورة هي بالتحديد وليدة ادراك بصري ، فإن تمثيل الأشياء داخلها يعود إلى تحويل أنطولوجي لماهيات مادية وتقديمها على شكل علامات. من هذا يمكننا القول ؛ إن فنان الصورة ، يعمل على تشكيل كادر صورته وفق بنية خاصة تنتجها معرفة ذات نمط رؤيوي جدلي . فهو يمتلك معرفة متحركة وحيوية ، يُسبغها على منتوجه الفني عبر ممكنات الواقعي والمتصوّر والمتخيّل . إن التدخل في محتوى المشهد ، عبر ذات الصورة  ، لا يعني تغيير ممكنات تفاصيل  وجودها لصالح مرمى ما ، بقدر ما يضفي حركة على المحتوى ، من خلال رؤى فنية ، يوظف في انتاجها كل ممكنات الفن ( التصوير الضوئي) وبذلك ينتج الفنان عالماً مماثلاً للمعاش ، لكنه من خلال المنظور الفني والموضوعي يحمل إشارات تُثير الحوار مع المحتوى . وهذا أيضاً ما يُبقي الصورة كمنتج خالدة عبر كل الأزمنة ، لأنها تعكس حقائق التاريخ .
المصادر :
1 ــ سوزان سونتاغ /حول الفوتوغراف / حول الفوتوغراف ترجمة عباس المفرجي /
دار المدى 2013
2 ــ رولان بارت / الغرفة المضيئة / تأملات في الفوتوغرافيا / ترجمة
هالة نمر / المركز القومي للترجمة 2010 ط1
3 ــ د.  نزار شقرون /معاداة الصورة في المنظور العربي والشرقي /
دار محمد علي 2009ط1
4 ــ سعيد بنكَراد / سيميائيات الصورة الاشهارية / الانتشار 2006.
5 ــ ريجيس دوبريه / حياة الصورة وموتها /ترجمة د. فريد زاهي / دار
المأمون 2007
6 ــ ميرلو بونتي /العين والعقل / ترجمة د.حبيب الشاروني / منشأة
المعارف بالإسكندرية .بدون تاريخ .

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

تنويعات في الوضوح

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram