في مكتبته الكئيبة التي تكدست فيها الكتب بشكل رصين ومنتظم ومتسلسل تحمل بين سطورها أجمل القصص واغربها المحزن منها والمبكي ،المفرح والباعث على الامل ، وقصص العشق وغراميات مشبوهة. لكنها لم تحكِ بعد قصته الغريبة كيف يمكن أن نقصي عن أنفسنا سعادة محتملة خوف
في مكتبته الكئيبة التي تكدست فيها الكتب بشكل رصين ومنتظم ومتسلسل تحمل بين سطورها أجمل القصص واغربها المحزن منها والمبكي ،المفرح والباعث على الامل ، وقصص العشق وغراميات مشبوهة. لكنها لم تحكِ بعد قصته الغريبة كيف يمكن أن نقصي عن أنفسنا سعادة محتملة خوفا من فقدانها ونقرر فقدانها قبل أن نمتلكها .هذا ما عاشه عاشقنا البائس بينما كان جالسا في المكتبة وعيناه شاردتان في اعماقه، باهتتان ذبل الامل داخلهما حين اطلت من خلف واجهة المكتبة الزجاجية تنظر إلى الكتب وتقرأ عناوينها، تتأمل بكل شغف العناوين فتميل بجسدها الممشوق بحركة رقيقة تنم عن انجذابها لعنوان كتاب. كانت تشبه زنبقة برية بيضاء بتمايلها الرشيق وتفتح أنوثتها الفتية. كما لو أن الشمس قد طبعت قبلة على ثغرها الباسم فأضاء النهار بابتسامة ألهبت قلبه وهو يراقبها من داخل المكتبة على كرسيه الخشبي المهترئ برصانة تكسبه عمراً أكبر من عمره الحقيقي الذي أمضاه وهو قابع بين الكتب حتى أصبح لون بشرته شاحباً كأوراق الكتب الصفراء، وكما لو أن ما يعطره هو ريح الحبر المتسرب من الكلمات، ومن حوله يتطاير غبار شبابه المتراكم فوق رفوف الكتب، ويخط الشيب دروبا في شعره كأن ثلج الكبر قد هطل على شبابه فأكسبه هيبة ووسامة وصلابة.
كان يتأمل جمالها الأخاذ بحذر شديد. وحين دخلت المكتبة انحسر الضوء الخافت واضاءت المكتبة بنورها السكري. القت عليه التحية ووقفت بجانبه فلفحته رائحة الزنبق المعطر بندى الصباح. رد التحية بارتباك. راحت تتلفت في المكتبة وتتصفح عناوين الكتب دون أن تعيره انتباهاً بينما هو يراقب كل تضاريس انوثتها وحركاتها الطفولية، ويمعن النظر خلسة إلى وميض عينيها العسليتين مفتوناً بها. وفي حركة عفوية، تآمر الكون مع الزمان بها، وقف في الوقت الذي استدارت لتسأله، فلتقت عيناهما ونفذت أنفاس كل منهم إلى روح الآخر.
سألته عن كتابٍ بصوت رقيق يشبه خرير الماء العذب المنساب من أعالي الجبال. شعر أن صوتها احتل كل الصمت المختزن داخله. بدأ يبحث عن صوته في ممرات الدهشة، وحين عثر عليه أجابها بتأنٍ: «غير موجود».
همّت بالرحيل، بينما ظل طيفها يجول في المكتبة ويعطرها برائحة الزنبق. لم يستطع النوم في تلك الليلة وهو يسترجع صورة جسدها المنسكب في بنطال كتاني أبيض وقميص أزرق بلون البحر يسبح فيه نهداها مثل دلفينين فتيين، وعقد رفيع معلق فيه حرف A يعطي عنقها اناقة مذهلة. كل شيء فيها كان مبهراً.
ولكنه فكر في لحظة مجنونة هاربة من كل الاحتمالات، ماذا لو أنه أحبها بصدق. وعشقت هي كل تفاصيل حياته، وعاشا معاً حباً أسطورياً وشغفاً ببعضهما، ومنحته الحب مثلما تمنح الزهور رحيقها للنحل وهي في أوج تفتحها وشبابها؟
لكنه في فكرة يائسة مغموسة بخوف سابق لكل ما هو منطقي لا مبرر له سوى الخوف من الفقدان. قرر أنه لن يفكر بها ولن يسمح أن يحتله حبها. أراد أن يكسر روحه بنفسه قبل أن تكسرها هي برحيلها. أنهى وليمة الفراق وصمم على قراره. ولكن ماذا سيحل بها إذا هي أحبته ومنحته قلبها وهجرها هو بعد كل هذا الحب؟ تخيلها كيف ستجلس وهي تنظر إلى ظله المبتعد وتطلق زفرات كأنها نفخ رياح هائجة تعصف بأشرعة سفن الوداع . خطواته تتسارع لكن ظله يأبى الفراق، يتبعه بتباطؤٍ، وصدى صوته يتلاشى في صمتها الناحب .مع أنها تمتلك كل أسباب الحب ليحبها إلا أنه غادرها تاركا الحسرة تصهر قلبها، أشاح بوجهه عنها معلنا رحيله إلى الأبد بعد أن أتاها على هيئة غيمة سعيدة تظلل حياتها بفرح مؤقت. رغم أنها شرَّعت له كل أبوابها الموصدة بوجه الحب، ورفعت راياتها البيضاء مسلّمة إياه مفاتيح روحها لينشر فيها تعاليمه المقدسة الاستثنائية التي عزمت تقديسها و شاركته طقوسه المجنونة ساعات السهر، ولبست له جميع أثواب العفة لترتقي بروحها لمرتبته الإلهية في الحب. كللت شعرها بازهار تفوح منها رائحة الطاعة الأبدية، ومنحت للنور مساحات ليضيء جسدها. بينما كان هو يشحذ سكاكين الفراق لذبحها، لانه أحبها بجنون فأوصلها إلى درجة الآلهة: قدس نهديها، وأقام معبدا على شفتيها، ونحت تماثيل للملائكة على عنقها المرمري وأباح لشوقه ان يطوق خصرها النحيل. لكنه أدرك في لحظة مجنونة انها احتلت وحدته واوقدت في قلبه شمعة تبصر بها آلامه وتطرد الظلام منه لتجد طريقا يعيده الى الحياة...
هل حقاً كانت هناك امرأة وقفت خلف زجاج المكتبة ألهبت روحه وأشعلت مخيلته لتوقظ أحلامها؟
جميع التعليقات 1
Ales
قصة جميلة