TOP

جريدة المدى > تقارير عالمية > كتاب في حلقات (6): الانهيار.. قصة الآمال العريضة والفرص الضائعة في العراق

كتاب في حلقات (6): الانهيار.. قصة الآمال العريضة والفرص الضائعة في العراق

نشر في: 6 أكتوبر, 2016: 12:01 ص

مَن الذي يفتح النار في كركروك؟
 
تطوّعت إيما سكاي لتعمل كموظفة مدنية في حكومة سلطة الائتلاف فوجدت نفسها تحكم محافظة كركوك. بعد ذلك أنهت ثلاث جولات من العمل في العراق  لغاية الإنسحاب الأميركي عام 2011. حيث عملت كمستشارة سياسية للجنرال أودي

مَن الذي يفتح النار في كركروك؟

 

تطوّعت إيما سكاي لتعمل كموظفة مدنية في حكومة سلطة الائتلاف فوجدت نفسها تحكم محافظة كركوك. بعد ذلك أنهت ثلاث جولات من العمل في العراق  لغاية الإنسحاب الأميركي عام 2011. حيث عملت كمستشارة سياسية للجنرال أوديرنو والجنرال بيترايوس. تسرد إيما في هذا الكتاب قصّة الآمال التي توقعها العالم والشعب العراقي وحتى بعض الأميركيين لمستقبل العراق بعد إزاحة نظام صدام، لكن ما حدث على أرض الواقع كان غرقاً في مستنقعٍ من العنف والإرهاب وحرب الآخرين على الأرض العراقية.
تروي في هذه التسجيلات تفاصيل الأحداث الجسام التي رافقت نشوء الدولة العراقية وتشكّلها بعد عام 2003. كيف سارت؟ وكيف برزت الأسماء المحلية؟ وكيف اختفت أسماء أخرى؟ ومن هي الأيادي التي كانت توجّه السياسة العراقية وبناء الدولة؟
هذا الكتاب يسرد القصة من الداخل. من مكاتب الجنرالات الأميركيين مرّة ومن مكتب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي مرّة أخرى. ومن اجتماعات السياسيين والشركات التي يفترض بها إعادة اعمار العراق ايضاً.
هو كتابٌ وصفته مجلة نيويوركر الأميركية بأنه "يشرح كيف إنهار كلّ شيء في العراق"، واعتبرته صحيفة الغارديان البريطانية "أداة لا غنى عنها لفهم خلفية هذا الفشل في العراق"، وهو في الأصل "يوميات ممتازة وسريعة الخطى تعتمد كلياً على ذكريات "إيما"، كما  قالت مجلة فورين أفيرز الاميركية.

كان لقيام الثورة الإسلامية في إيران الأثر البالغ في المنطقة بأسرها، لكن صدام المدفوع بمخاوفه من التهديدات التي يتعرّض لها نظامه من القلاقل المحلية التي كان يراها أنها مدفوعة ومباركة من طهران، بدأ على إثر ذلك هجومه على إيران عام 1980. وقد استعمل في ذلك الخلاف الحدودي بين البلدين كذريعة.
كان يتصور أن الحرب ستكون خاطفة وسريعة، وستمكّنه من تثبيت مكانة جديدة للعراق في المنطقة، مثلما ستثبت أركان حكمه في العراق، لكن الحرب انتهت بعد ثماني سنوات بلا أي تغيير في الحدود بين البلدين وبمليون ضحية من الجانبين. ومع خزينة مفلسة وخارجة من الحرب للتو، هاجم صدام الكويت مطالباً دول الخليج بإسقاط الديون العراقية وطامعاً في نفط الكويت، لكن صداماً أساء تماماً في حساباته احتساب رد الفعل من جانب المجتمع الدولي على خطوته هذه. وفي عملية عاصفة الصحراء، تمكنت الولايات المتحدة من قيادة تحالف أزاح صدام وقواته عن الكويت بسهولة، لكن الرئيس جورج بوش(الأب) رفض المضي قدماً في مطاردة القوات العراقية الى بغداد، وتوقع أن تكون مرارة الهزيمة كافية لجعل نظام صدام يسقط لأسباب داخلية أو عبر انقلاب عسكري. وعلى اثر ذلك، خرج الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال عبر انتفاضة واسعة ضد الحُكم في أربع عشرة محافظة من أصل ثماني عشرة. لكن من دون مساعدة قوات التحالف، سرعان ما أمكن لصدام إخماده.
***
وفي إحدى الأماسي، قدَّم لي الكولونيل مايفيل هديّة، كانت عبارة عن كتاب(الكرد والعرب والأتراك- رحلة سياسية في أحوال الشمال الشرقي العراقي 1919-1925)  كتبه سي جي أيدموند(C.J.Edmonds)، أيدموند كان ضابطاً سياسياً عمل في كركوك خلال حقبة الاحتلال البريطاني. التهمت الكتاب بسرعة مدفوعة بالرغبة في اكتشاف المصاعب والتحديات التي واجهت سلفي قبل ما يقرب من مائة عام. قلت حينها للعقيد بأنني لو كنت سأكتب مذكرات في المستقبل عن عملي في العراق، فإنني سأكتب عن(القبيلة الأميركية!)، هذه القبيلة التي تبدو أقل اهتماماً بالتاريخ مما يوليه العراقيون. إنهم مهتمون فقط بتحرّي ما هو صواب ليفعلوه برأيهم، وينصب جلّ اهتمامهم على الشكل الذي سيبدو عليه العالم.
كان العسكر والجنود الأميركان ينظرون الى أنفسهم على أنهم محررون، وكانوا غاضبين مما اعتبروه نكراناً للجميل من جانب العراقيين غير المرحّبين. وعندما وصلت الى عملي في كركوك كان أحد الاسئلة التي وضعتها نصب عيني هي :"ماذا علينا أن نفعل كي نكون محبوبين؟"
لقد قلت للعسكر، بأن مَن يغزو بلداً ما، ويقتل أشخاصاً ما كانوا يشكّلون له تهديداً، في النتيجة لا يمكن أن يكون محبوباً. لقد قلت وكتبت ذلك بعد حرب الخليج عام 1991، والتي تبعتها سنوات طويلة من العقوبات القاسية التي أثرت على الصحة العامة، والتعليم، ورافقتها حالة اذلال وهزيمة، كنت لهذا أتفهم تماماً لماذا نتعرض باستمرار للنيران من قبل العراقيين، لكن ما لم أتمكن من فهمه هو السبب الذي يدفع العقلاء الأميركيين أن ينخرطوا في الجيش من أجل قتل أناس هم في حالة مواجهة آيدولوجية معهم أكثر من كونها مواجهة دفاعية.
لقد كنت مهووسة بعدد القتلى الذين يسقطون من بين العراقيين، رأيت الجنود الأميركيين غارقين بالدماء. وكنت أتساءل عن أية حياة شاركوا في تدميرها؟ وعن أية نتيجة يمكن أن تخرج من هذه المواجه، لقد ادركت أنه يتوجب عليّ أن أنظر اليهم كما ينظرون الى أنفسهم من أجل التواصل معهم.
وطالما سألت الجنود الأفراد عن سبب التحاقهم بالجيش، كنت أستمع في العادة الى قصص عن النشأة الفقيرة، وعن محاولة تحسين الوضع المعاشي، وعن الفرص التي يمنحها الجيش للملتحقين، كما استمعت الى قصص تتحدث عن نيل مكانة أفضل بعين المجتمع الأميركي. تقريباً كل شخص سألته عن اسباب الالتحاق كان مندفعاً بأسباب الفخر بخدمته العسكرية والفرص التي يعنيها له الإنضمام للجيش، وكانوا ممتنين لهذه المشاعر في العموم. ومعظمهم تحدث عن حبه للولايات المتحدة، وأن خدمته العسكرية في العراق ستجعل بلاده مكاناً أكثر أمناً. كما سمعت منهم قصصاً كثيرة عن الرغبة في الالتحاق بالجيش بعد احداث 11 ايلول، لكن أحّدهم لخّص لي أسباب التحاقه بالقول:"وأي عمل آخر سيسمح لك بأن تطرق الأبواب ثم تنتظر قليلاً ثم ترمي قنبلة وتفجّر المكان؟!"
كان العديد من الجنود ينظرون الى أنفسهم على أنهم جند الحق، وأن عليهم محاربة الشر، ونشر العدالة. لكني وجدت ضمن جنود اللواء عدداً كبيراً من الموهوبين، بعضهم كان يحمل شهادات عالية في القانون، وآخرون توافروا على شهادات دراسية في العلاقات العامة، أو في الادارة والمحاسبة، بعضهم خدم في البلقان والبعض الآخر خدم في أفغانستان. كان من بينهم من يؤمن بالربوبية لله، والبعض الآخر مؤمن بضرورة الحرب على الإرهاب أو انه مؤمن بما يجب فعله هنا في العراق أو أفغانستان. البعض الآخر قالوا ببساطة إنهم قد قطعوا عهداً للخدمة في الجيش، وإنهم سيطيعون الأوامر طالما كانت أوامر قانونية وأخلاقية. في الحقيقة كانوا منخرطين في حياة عسكرية منضبطة للغاية، يتواصلون مع أهلهم في أوقات محددة وبطرق معلومة، التلاعب الوحيد الذي كانوا يؤدونه هو محاولتهم التدخين وإخفاء بعض السكائر في ملابسهم، وإطفاء أعقابها في قناني الماء أو عشوائياً على الأرض. وعلى أحد جدران مركز القيادة التكتيكي، كانت هناك لوحة ورقية كبيرة، عليها صورة كنيسة في أميركا، اللوحة ثبتت عليها صور ضباط اللواء 173 وهم بالزي الرسمي، والى جانبهم بعض العبارات الرمزية الدينية.
عمل العقيد مايفيل على إدخالي الى الدائرة المقرّبة من قيادة الجيش، الدائرة الخاصة التي تحتوي كبار الضبّاط. لقد بدأت أفهم تسلسل القيادة المرعي بينهم، اللكمات التي يوجهها أحدهم الى الآخر على سبيل التحية، بدأت أفهم دعاباتهم، إهتماماتهم. في الحقيقة وجدت أن العسكر يشبهون مخلوقات قادمة من المريخ. لكني وجدتهم قابلين للفهم، ويمكن إقناعهم حالما فهمت أولوياتهم. لكن الأهم في أولوياتهم أنهم كانوا راغبين بفعل الأمر الصواب.
في البداية كنت أنظر الى كل التحيّات والبروتوكولات العسكرية على أنها أوامر عبثية، لكنّي سرعان ما أدركت أهميتها وقيمتها على أرض التطبيق.
إنها تقدم إطار عمل يمكن فيه لكل شخص أن يفهم دوره وأسبقيته في ضوء التراتبية الهرمية للقيادة والتنفيذ. وبما أن الأوضاع في العراق كانت بعيدة عن الوضوح، فقد تلقت البروتوكولات العسكرية دفعة من الدعم والتأكيد داخل الجيش الأميركي. وخلال مخاطبتي للعقيد مايفيل كنت أناديه باسم(بيل)، لكني كنت استخدم لقبه الرسمي بحضور الآخرين(عقيد)، ومنه اقتبست طريقة مخاطبة كل الضباط الأقدمين ببادئة(سيدي)(SiR)، والذي أدهشني أن الأميركيين كانوا أكثر تحفظاً ورسمية حين يخاطبون الرتب العليا، ويتفوقون بهذه الرسمية على نظرائهم البريطانيين؛  كنت أتخيل أن من غير اللائق ابداً مخاطبة المراجع البريطانيين الأقدم والأعلى بكلمة (سيدي) ، كان السفير يطلب مني مخاطبتهم بالأسماء الأولى ويضاف اليها الرتبة فأقول: الجنرال جون...أو ...الجنرال آندرو، وهكذا.
كانت علاقتي مع أركان قيادة اللواء في عمومها علاقة جيدة. فقد قبلوا انضمامي اليهم بكل سهولة. كانوا يفهمون أن العقيد مايفيل يقدّر مشورتي وآرائي، والبعض منهم فهم أن تولي القيادة هو أمر يؤدي الى الشعور بالوحدة، وإن العقيد - قائدهم- قد وجد فيَّ صديقة على الأقل.
لكن الأمر لم يخلُ من بعض المُشاحنات، صرخ أحد الضباط مرّة في وجهي قائلاً: كيف تنظرين الى الأمور باعتبارك خريجة أكاديمية ويست بوينت العسكرية أم باعتبارك عربية مزيّفة؟" كان ذلك بعد أن عارضته في رأي ما، فأجبته: إنني لا أصنّف الناس بهذه الشاكلة" واحمرَّ وجهي وتركته غاضبة. إن العسكرية قد تكون مسألة محبطة جداً لمن يتعامل معها. فقد اقدموا مثلاً على تصنيف العراقيين على شكل كارتات ورقية، على الشكل التالي: الأشخاص الجيدون وهم (المتعاونون مع الأميركيين والأكراد) والأشخاص الأشرار هم (المعادون للأميركيين والعرب). أما الأشخاص الجيدون فهم يستحقون الدعم(بالمال والقوة) وأما الأشخاص الاشرار فنصيبهم (القتل والاعتقال). أما أولئك الذين نقاتلهم فقد كانوا يصنفون على أنهم (الأعداء) وقد يرمز لهم جميعاً  بـ (ع.ن.س) أو عناصر النظام السابق، وكذلك هناك (الموالون للنظام السابق) ويرمز لهم( م.ن.س) ولاحقاً صار اسمهم (المتمرّدون). وهناك أيضاً (العدائيون تجاه القوات العراقية). وفي محاولتي لفهم هويّة الجهة التي نحاربها، وما الذي تريده منا، كنت أجادل في الربط بين تصرفاتنا تجاه الآخرين في مقابل رد الفعل المتوقع عنهم. لكن هذا لم يشاطرني العسكر فيه، كان بإمكانهم السير في طريق مستقيمة وتحطيم كل شيء يصادفهم ومع ذلك، يظنّون في أنفسهم أنهم قد فعلوا الصواب. لقد سمعت جنوداً أميركيين يتحدثون وقد ملأهم العجب عن عراقيين يعيشون في"أكواخ طينية"، ويرتدون" ملابس رجالية غريبة"وزادهم عجباً أن"الرجال يتبادلون القبل بينهم كتحيّة". كانت التسلية الوحيدة التي يتمتع بها الجندي الأميركي هي مشاهدة الأقراص المدمجة أو الألعاب الألكترونية العنيفة، بالإضافة الى الصالة الرياضية. صحيح إن العقيد مايفيل كان معجباً بالإرث الثقافي العراقي، لكن عملية غرس احترام الثقافة العراقية عند الجنود كانت أمراً آخراً.
تحاشيت تماماً أن أكون جزءاً من أي نشاط يحتوي على العنف، أو أن أكون جزءاً من أي شيء مشكوك في أساسه الأخلاقي، لقد وضعت خطوطاً حمراً لنفسي. فعلى سبيل المثال، كنت أمتنع عن مشاركة أي معلومات أو الاشتراك في أي نشاط قد يؤدي في النهاية الى موت إنسان. لكنني كلما اقتربت أكثر من الانشغال اليومي للقطعات العسكرية، كلما كنت أكثر تكيّفاً مع واقع الحال وأكثر مرونة، وزادت بصيرتي لأفهم ما هو عليه العالم الحقيقي البعيد كل البعد عن المثالية. لكن، سواء رضيت بهذا أم لا، فأنا جزء من قوة الاحتلال المسؤولة عن إيقاع القتل أو الاصابات أثناء الفعاليات. لقد كنت بالفعل جزءاً من القوة التي تحتل العراق. ولا يغير في الأمر شيء أنني كنت مدفوعة بالرغبة بإبداء المساعدة. فهل تبرر النتائج الوسائل المستخدمة؟ كنت أحاول أن أقنع نفسي بهذا.
منذ نيسان عام 2003، كانت الفرقة القتالية منشغلة تماماً بإدارة المحافظة، مولية الاهتمام لكل نواحي الحياة، بدءاً من الأمن وانتهاء بتوفير الوقود والرعاية الصحية والتعليم. وحينما وصلت كركوك، كان الجيش ينظر الى المدنيين ومؤسساتهم على أنها مؤسسات غير كفوءة بالمرّة ولا يمكن لها أن تقدم شيئاً، وقد سمعتهم يتهكمون بسلطة الائتلاف على أنها تختصر في جملة واحدة :"ليس لدينا القدرة على توفير أي شيء"، وحين قدِمت أنا، البريطانية المتطوّعة للعمل في هذا السلك، تعززت قناعاتهم، حيث لم أمتلك إلّا فريق عمل بسيط للغاية مع اعتمادي الكامل على الجيش في تأمين حاجات استمراري بالحياة. لم يكن بإمكاني فعل أي شيء سوى إبداء العجب من الطريقة التي تورّط بها الجيش خلال محاولته تأمين احتياجات الكركوكيين، لقد كان الجيش يرتب الأولويات في المدينة، ويمنح العقود للمقاولين المحليين، ويدير كمّاً كبيراً من الأموال التي تصرف.
كان آمرو الدبّابات يعملون على تطوير النواحي الاقتصادية في المدينة، والضبّاط المظليّون مكلفين بمتابعة شؤون الحكومة المحليّة، فيما كان الضباط الإداريون يتولون ادارة شؤون التعليم والمدارس. لقد كانوا غارقين تماماً بهذه المهام التي في أيديهم. دخلت في أحدى المرّات الى مجلس المحافظة فوجدت ضابطاً برتبة نقيب يؤنب أعضاء المجلس لعدم اتباعهم قواعد النظام في الحوار والديمقراطية، وهو يمسك بيده نسخة من كتيب قواعد روبرت(Roberts roles). وكان يلقي عليهم محاضرة يدفعهم فيها الى طلب الإذن عند الكلام برفع الأيدي والانتظار حتى يأذن رئيس المجلس بالكلام. ولم يكن التنافس والخلاف موجوداً فقط بين الوحدات العسكرية، إنما ظهر بين العسكر والمستشاريين المدنيين، الذين يعمل معظمهم بتمويل من وكالة المساعدات الأميركية(USAID)، كل المجاميع كانت تعمل بالتنافس ازاء بعضها البعض، وحالما أدرك العراقيون هذا التنافس بدأوا باللعب عليه وعلى مفرداته.
وعندما حلّ الصيف تماماً، أصبح واضحاً أمام العقيد مايفيل أنه لن يغادر العراق عمّا قريب. كانت وثيقة سلطة الائتلاف التي تصف مواقع الخدمة المدنية التي يجب شغلها عبارة عن وثيقة خيالية أكثر من كونها وصفة سحرية تحمل(حكومة معلّبة للمدينة)، حيث لم يكن يتوفر هذا العدد من الشاغلين والقائمين بالأعمال المدنية. عندها اقترح العقيد ان يتم تكليف بعض الضباط كي يضطلعوا بهذه المهام مؤقتاً . لقد وافقني على أن تحقيق النجاح عبر الأداء العسكري ليس هو السبيل الوحيد لزرع الاستقرار. لقد توجب علينا أن نترك شيئاً على الأرض يثبت أننا قوة لمساعدة العراقيين.
لقد شخّصنا ابتداءً حاجتنا الى تقديم الدعم وتمكين العراقيين بدلاً من جعلهم يعتمدون على سلطة الائتلاف او قوات التحالف في توفير احتياجاتهم المعاشية وضروراتهم اليومية. ولهذا أصدر العقيد توجيهاً الى جنوده يقضي بوضع العراقيين في موضع وسيط بين المشكلة وبين جهود قوات التحالف من أجل حلّها.
لكنني تحاشيت أن أضع هيكلاً موازياً لتعليمات العقيد، وبدلاً من ذلك، عملت على تمكين الضبّاط لتقديم الخدمة المدنية، واستخدمت مهاراتي في توسعة الترابط بين العسكر والمشاكل المدنية، لكن الأولوية التي تعلمتها في كركوك هو أن أبقي على عيني مفتوحة على الآخر، لقد سبق لي أن عملت في أماكن نزاع متعددة في آسيا وفي مناطق مختلفة. لكن لأول مرّة في حياتي المهنية أتحول أنا نفسي الى هدف يحتمل استهدافه. لقد تعلمت بأصعب طريقة في التعرف على الاشياء بأنه لا وجود لمجال العمل الإنساني في العراق، دون أن ينظر اليك العراقيون بعين الريبة. لقد كان أمر الذهاب الى الحرب في العراق قضية متنازع عليها، وكانت شرعية الحرب والعمليات العسكرية تخضع لجدل واسع. ولهذا، فإن أي عمل مدني يقدم الخدمات في العراق و يرافق القوات الأميركية سيعدّ جزءاً من(المشروع)الأميركي، وبالتالي هدفاً يمكن استهدافه.
لهذا وجهت دعوة الى كل العاملين في المنظمات غير الحكومية والمستشارين والعسكريين والعراقيين العاملين في مبنى الحكومة الى اجتماع في مكتبي. اتفقنا مبدئياً على أن التنافس وروح التغالب الموجودة بين الوكالات والوحدات المختلفة وجب أن تختفي، وكانت عبارة عن قضيّة محبطة، وغير مثمرة وتضيع الجهود، وفوق هذا تسببت في ان العراقيين يطلبون نفس الطلب من خمس أو ست جهات في آنٍ واحدٍ.
واقترحت أن نحوّل أنفسنا الى وكالة لتقديم الدعم والاستشارة للعراقيين، نمنحهم النصيحة، ونوفر التدريب اللازم، و نعضّد أداء المؤسسات العراقية المدنية.
يحتاج العراقيون بالفعل الى استشارات في هيكلية الحكومات المحلية، وطريقة تقديم الخدمات العامة،  وقواعد الادارة المالية والمحاسبية،  وفي تطوير المجتمع المدني، وفي تقديم الدعم للمرحّلين وتمكين عملية إعادة التوطين، وتوفير الأمن. اطلقنا على هذا التشكيل اسم (حكومة الفريق).
وفي نهاية الاجتماع خاطبت المجتمعين بالقول:"كل واحد منّا هو سفير للولايات المتحدة والغرب، ومن المهم جداً ان نحفظ هذه الحقيقة في عقولنا أثناء مقاربتنا لأي تماس مع العراقيين". وقد خاطبت العسكريين بالقول:" لا يمكن تحت أي ظرف رفع الصوت أو الصراخ بوجه العراقيين، عاملوهم باحترام في كل الظروف وفي كل الأوقات". لقد حدث ورأيت أنهم يعاملون العراقيين في بعض الأحيان كما لو كانوا أطفالاً، أو أنهم جنود أساؤوا التصرف. لقد كنت راغبة بأن أرى الكركوكيين وهم يمتلكون القرار في عملية التنمية والتطوير، وليس الاكتفاء باستشارتهم.
وشرعنا بتأسيس (هيئة تطوير كركوك)، للتوثيق من ان إدارة المحافظة ستكون منخرطة تماماً في عملية رسم الستراتيجيات التنموية للمدينة وبلداتها ونواحيها، وان تكون مشرفة على استخدام أموال التنمية بأفضل صورة. وان تحدد الأولويات والقطاعات المهمة التي يجب البدء في العمل عليها قبل غيرها. كانت الهيئة مرؤوسة من  قبل المحافظ ومن قبلي أنا، وكنّا نعقد لقاءً نصف شهري للمراجعات. ولهذه الهيئة يعود أمر التنسيق لكل المشاريع في المحافظة. كانت التقارير ترفع الى مركز هذه الهيئة، وتدار من قبل كادر عراقي يعضده اشراف من (حكومة الفريق). كنت أعمل على تشخيص الاحتياجات، وأحرص على ألّا تتكرر أمام المانحين المطالب، وبالتالي نقع في فخ التكرار. كما أهيئ عملية تصنيف المقاولين المؤهلين للاشتراك في التنمية وأضع المبالغ المتعلقة بالتكاليف.
ولكي نعلن عن أنفسنا أمام العراقيين على إننا أهل للثقة، فقد جرى تأسيس مكتب في مبنى المحافظة يستلم الشكاوى التي ترد من العراقيين تجاه قوات التحالف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

التعديل الوزاري طي النسيان.. الكتل تقيد اياد السوداني والمحاصصة تمنع التغيير

حراك نيابي لإيقاف استقطاع 1% من رواتب الموظفين والمتقاعدين

إحباط محاولة لتفجير مقام السيدة زينب في سوريا

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برنامج دولي لتحقيق أمن غذائي دائم للمتضررين فـي العراق

برنامج دولي لتحقيق أمن غذائي دائم للمتضررين فـي العراق

 ترجمة / المدى في الوقت الذي ما تزال فيه أوضاع واحتياجات النازحين والمهجرين في العراق مقلقة وغير ثابتة عقب حالات العودة التي بدأت في العام 2018، فإن خطة برنامج الأغذية العالمي (FAO )...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram