7- في منزل غوته: أشباح المعشوقات
أفضل ما حدث لي في مدينة فرانكفورت - كانت زيارتي لمنزل ومتحف الشاعر العظيم ( غوته ) : هذا المنزل التراثي الذي دمر في الحرب العالمية الثانية سنة 1944 وجرى ترميمه وأعيد قدر الإمكان الى شكله الاصلي واحتفظ باثاث عائلة غوته ومقتنياتها . تميز المنزل العمارة الالمانية التقليدية بالآجر الأحمر الذي يكسو طوابقه الثلاثة وأصص الزهور التي تستقر في نوافذ الطابق الارضي تشير إلى ولع غوته بالطبيعة واندماجه بها متأثرا بأفكار جان جاك روسو وسبينوزا . هناك تفتح الأبواب على مهل، ننقل خطواتنا في خشوع لولوج المكان ، وتئن السلالم الخشبية العتيقة تحت أقدامنا وتحف بنا تلك الموسيقى البهية التي تهبنا أجنحة ثم تنساب متموجة بين الغرف – أتذكر أنها كانت مقطوعة براندنبرغ للموسيقار باخ ،تتردد بين الأصوات الهامسة والخطى المتوجسة ..
"الديوان الشرقي للكاتب الغربي" يشع ألقاً من المكتبة بين مؤلفاته الأخرى وتلتمع الممرات المكسوة بالخشب بانعكاسات المرايا والثريات وتفوح عطور معشوقات غوته العديدات وصورهن المجسدة في لوحات زيتية . ثمة شبح فاوست يفاوض الظل القاتم المغوي لمفيستوفيليس، والشاب الرومانسي فيرتر يكابد ويلات العشق وحيدا. كان مفيستو فيليس يتربص بالفتى فاوست في كل زاوية من المنزل ،يتخفى وراء تموجات الضباب أو بين ظلال الشجر والزوايا المعتمة ليباغت فاوست كل آونة ويعرض عليه مشروعه : أن يرهن فاوست روحه لدى مفيستو فيليس على مدى عشرين عاما بينما يحقق له الشيطان مفيستوفيليس جميع طموحاته الأرضية ، هنا كان فاوست يلاحق انفاس غوته ويحاصره والشاعر شيلنغ يحث غوته على اكمال المسرحية.
تتماوج ظلال معشوقات غوته هائمة بين الغرف وتصحح مسار الزمن في الساعات المهملة على الآرفف. صورته الزيتية تبوح بأشواقها وجموح القلب وتوقه للحبيبات المتغنجات ، فهذه غريتشن المعشوقة التي هجرها تتقصى في وجهه تلك القسوة التي دفعته لهجرانها والالتحاق بالامير كارل في فايمار، تقف غاضبة لدى باب غرفة الضيوف ذي الأثاث المكسو بالحرير الشرقي الوردي المتوهج وتحدق بالستائر المخملية الحمراء وتختفي برهة بين نقوش الزهور على ورق الجدران.
وبينما نحن نتأمل ممتلكاته الأنيقة ولوحاته وكتبه العتيقة بأغلفتها الجلدية وننصت إلى المترجم بنبرته الوظيفية الباردة ، تراءت لي محبوبته الأثيرة السيدة شارلوته فون شتاين التي عشقها وهي أم لسبعة أبناء وتكبره بسنوات عديدة ، حدقت في طيفها فبدا على سيمائها ذلك النبل الجميل وخبرة الحياة ورصانة السيدة المثقفة الواثقة التي نجحت في كبح جماح غوته وتهوره، فكانت علاقتهما صداقة حميمة راقية انعكس تأثيرهاعلى غوته العاشق فتبلورت شخصيته وتحولت اعماله من الاندفاع الرومانسي الملتهب إلى الرصانة العقلانية ، وبدأت المرحلة الكلاسيكية في أعماله. وشارك الامير كارل في ادارة امارة فايمار وعينه وزيرا، وأنعم عليه القيصر يوزف الثاني بلقب نبيل ( فون غوته ) ورافق الأمير في رحلاته ثم غادر المانيا الى ايطاليا وتجول فيها على مدى عامين واستلهم منها الكثير مما عزز شاعريته ، واثار ت رحلته غضب المعشوقة شارلوته فكانت القطيعة ..
هل توقف غوته عن جموح العشق ؟؟ أبدا ، فها هي الفتاة الصغيرة كريستيانه فولبيوس ،الفقيرة شبه الأمية، تخلب روحه وتشغله عما سواها فتعيش معه في منزله غير أن مكانته في البلاط لم تكن لتسمح له بالاقتران رسميا بهذه الحبيبة فلبثت معه طويلا ووقفت تذود عنه باستماتة ضد جنود نابليون الذين هاجموه ، فأعلن زواجهما واعترف بأبوة ابنه اوغست منها..