ولأنَّ طريقنا غالبا ما يكون عليه، أردتُ أن أذكرك بالموضع الذي كانت عنده علوة القصب، "علوة زيارة العُرْبي". هكذا، وكمن يقلب في دفتر ديونه، وقد خسر كل شيء، رحت أبحث في المكان المحصور بين بستان سيد فتاح وشارع إبن كاولي، حيث يكون بيت (سويد ابو النفط) قبل أن تقطّع الأرض، وتوزع مساكن ومتاجر ومدرسة، قبل أن تكتسح الجرّافات شجرة البرهام العملاقة، وينغلق طريق الفريج، وتصبح الجادة الى قصر آغا جعفر وشط العرب مستحيلة، قبل أن يتناهب عمّال الموانئ جذوع وخشبات دكان القصاب، ابن الأزهري، في صباحاتهم الباردة، وهم يحملونها وقوداً، حيث يتجمهرون قرب مصطبة انتظار باصات مصلحة نقل الركاب، عند بيت حييّ( الحاج) شري، المختارية العثمانية، قبل ان يسمّى المختار بنسخته الملكية، بيتهم الذي يقابل بستان أحمد الورد، ببابه الصفيح، وقد ظللته شجرتا العنب وتهدلت كثيفة، على كتيبته ضفائر الجهنمي والدفلى، حتى بات لا يرى إلا مغلقاً.
فقلتَ لي: أيعقل هذا، أكلُّ ما ذكرتَ، كان في الفسحة التي لا تتجاوز مساحتها الدونم من الأرض، قلتُ: نعم، وأكثر، فأنا ما سرّحتُ ببصري حتى بيت جاسم السِّعِدي، فقد توقفت عند حدود بستان بيت ملّا حَمد، وضيّقت في الرواية حتى أنني تجاوزت ذكر شرفة بيت عبد الله الدربندي، حيث كان يقيم مجلسه فرداً بين الخلائق، سوى من كأسه وعوده، أو وهو يغني لعبدوالوهاب وحسن خيوكه، أو وهو يسخر من خطى صحبه الصِّحاح العائدين من (مقهى أبو نوري). بيتهم، الذي لم يبق من حجارته اليوم شيء. هل حدثتك بحديث خصومة بيت الشيتي مع عبد الرزاق المختار، وكيف وقف رحيّم الشيتي يفاخر بأسرته، وقد لعبت بدمه كؤوس العرق التي عبّها ليلة الجمعة، قرب ماكينة السقي، في بستانهم التي على نهر السراجي، ظل رحيم يصرخ بوجه المختار: "ولك إرزيّك، إحنا بيت الشيتي، أصل وفصل، إحنا طوف مسدود بطين حرّي، إحنا خصّ مضروب أربع هطر، عكفة ما مثلومة حبّايته."ياه، هذا كلام لا موضع له إلا في القلب. كلام في الفخر، في فضل أهل النخل والانهار على أهل النخل والانهار. أتستحضرُ معي ما قالهُ الإعرابيُّ في مجلس الاخفش، وقد حار وتعجب وأطرق ووسوس : "أراكم تتكلمون بكلامنا، بما ليس في كلامنا.." كنتَ مثلي تعرف رحيّم، وتعرف خصومته القديمة مع الحاج عبد الرزاق، كلاهما صديق، أنيس، ودودٌ في النهار. سكرانٌ، عربيدٌ، شتّام في الليل، وهما جيران بعضهما منذ قرون، لكنني، وددتُ أن أعرّجَ على تفاخر رحيّم الشيتي، فهو يصفُ أصلَهم ونجابتهم وشكيمتهم في قريتهم، بما لم يعد يتداوله أحدٌ اليوم، أبين اهلينا من يعلمُ ماذا يعني أنْ تجعل طوف بيتكم من الطين الحريّ، الطين المأخوذ من أعماق الانهار، وكيف يكون الخصُّ، سور البيت، خصّ البيت متيناً إذا أقمتهُ وشددتَه بأربعة هطر(أحزمة من القصب والسعف) وقد دأبت الناس تشيّد أخصاصها من ثلاثة، وماذا يجب عليه أن تكون العكفة (آلة التكريب) كلُّ عكفة لا تصلح انْ يطلق عليها عكفة إذا ثلمت حبّايتها( رأسها، نهايتها الحادّة) هكذا، كان يتفاخر الناس. كنا معا قد شهدنا شجرةَ البرهام العملاقة بأغصانها المحشوة بالعصافير وهي تتهاوى، على الاسفلت، على الجادة، بين العشار وأبي الخصيب، ومعاً شهدنا زوال علوة زيارة العُرْبي، ومعا، انسدت علينا الطريق التي كانت الى بيت آغا جعفر وبستان عسكر وبيت فاضل مبارك وبيت الرّمان، وبيت أبو طريفة ووو. ومعنا شهدنا دخول الغرباء الى قريتنا الصغيرة وضياع أسماء سككها وأعيانها وانهارها وأشجارها. هلّا اخذتنا إلى حديث غير هذا، فانا موجوعٌ اليوم، موجوع، مفجوع والله .