سيدتي العزيزة،
عانيتُ وطأةَ انتظارِ رسالتك، ولكني تبينتُ الآن أنها كانت وطأةَ عزلتي. وعذرُ رسالتك كان انشغال المشاركة، الذي اتضح لي أنها المشاركة التي تتطلبها التمارين الموسيقية. بين عزلتي وانشغالكِ أمرٌ بالغُ الأهمية، يتصلُ بهويةِ الشاعرِ وهويةِ الموسيقي، الذي أريد لرسالتي هذه أن تنصرف إليه. ولا أُنكرُ أن شاغلي العاطفيَّ كان المُحفّز لهذا.
لقد كتبتِ لي في رسالتك السابقة أن مشاغلَك الموسيقيةَ، في الدربة على أداء العمل الثنائي الجديد: مغنية سوبرانو وعازف آلة البوق، أخذتكِ بعيداً عن واجبِ أو رغبةِ الكتابة إليّ. لقد انقطعتِ قرابةَ عشرة أيام، حفّزتْ وساوسي دون ريب، إلى أن أظنَّ الظنون في أكثر من شأن، أبرزُها العافيةُ، وعافيةُ الحبّ ضمناً. ولكني، دون هذه الظنون، توقفتُ كثيراً عند فكرة تولّدتْ من إشارتك العابرة إلى "مشاغلك الموسيقية". وسرعان ما وجدتُ الفكرة تتّسعُ لتُصبحَ مُحاججةً، حين دخلتْ "مشاغلي الشعرية" على الخط. فنحن كلانا، مغنية أوبرا وشاعر، في غمرةِ مشاغلِ الدُربة على الأداء: أداءِ الصوت، وأداءِ اللغة. ولا أخفيكِ أني فزعتُ من التصور المفاجئ للوادي العميقِ الذي يفصل بين الأداءيْن. هذا الوادي الذي اتضح في بصيرتي على هيئةِ أسئلة، هو الذي حوّلَ الفكرةَ إلى مُحاججة، والبديهةَ إلى معضلة. لقد وجدتُني أحسِدُك وأُشفقُ على النفس. أحسِدُ الموسيقيَّ مؤلفاً، أو مغنياً مثلك، على مشاغلِ الدُربة التي تحضرُ ملءَ يديه في هيئة "أفعال" works؛ وأشفقُ على الشاعر، مثلي، على مشاغلِ الدُربة التي تحضر ملء شفتيه في هيئة "كلمات" words. لقد رأيتُ بمزيدٍ من الوضوح كمْ تقود "الأفعال"، أفعالك، إلى المشاركة، وكم تقود "الكلمات"، كلماتي، إلى العزلة. أنت تغنين صوتاً يخترق حجبَ الصمتِ في كلِّ اتجاه، بصحبةِ عازفِ بوقٍ يحاوركِ، يحاذيكِ أو يقاطعكِ، وبرعايةِ ثالثٍ هو المؤلف الذي يتابع النوتةَ الرقمية، كيف تتحولُ على خيوط حنجرتِكِ وعبر مفاتيحِ الآلة النحاس، إلى لحن. مشاركةٌ كهذه تحسِدُكِ عليها حتى الطيور. أما "الكلمات" فتُقبل على الشاعر بأجنحةٍ من صمتٍ، داخلَ بهوٍ في الرأسِ صامتٍ، وبصمتٍ تهبطُ على الورق. ويظل الصمتُ القاهرُ يَصحبُها، وهي ترحلُ إلى الناشر، ثم إلى القارئ، ثم إلى الذاكرةِ أو النسيان. وليس عبثاُ أن يُقرنَ هذا الصمتُ بتساقطِ أوراقِ الخريفِ على الأرض الرطبة. وهو إلى جانب هذا صمتٌ يستدعي عزلةً؛ والعزلةُ تتواصلُ متماسكةً ما دام الشاعرُ شاعراً. إنها عزلةٌ يتطلّبها الشعرُ؛ وهي عزلة تُفرض على الشاعر، فيُضطر إلى الحيرة، وتأمّلِ النجوم. "الأفعال" هي التي شغلتكِ عني، وعن الكتابة إليّ إذنْ. و"الكلمات" هي التي ألّبت فيّ التطلع إليك، خارج صمت العزلة. ولكن هذه المعادلة، التي تبدو تراجيدية، سرعان ما تتعارض مع ذاتها، بصورة عابثة، لتقودَ إلى نتيجةٍ معاكسةٍ تماماً. فأنا الذي أكتبُ الرسائلَ إليك هذه المرة. أليس هذا "فعلاً" أو يُشبه الفعل؟ ولا أحصدُ من طرفك إلا الصمت. ألا يشبه هذا الصمتُ صمتَ "الكلمات"؟
هاجس كهذا ألمَّ بي في منتصف عام (2002)، وأملى عليّ قصيدةً نشرتُها في مجموعة "آخر الغجر"، بعنوان "تمضي الرسائل". هذا الهاجسُ بشأن معادلةِ الرسالةِ والصمت، أخذ مدىً في القصيدة ما كان في الحسبان: "لمَ أكتبُ وحدي الرسائلَ في كلِّ شهرٍ؟
أحاولُ أنْ أستجيبَ لصمتكِ، إذْ أدعي أنَّ صمتَكِ أبلغُ مما أحاول.
............
تمضي الرسائلُ من طرفٍ واحدٍ، ويواصلُ صمتُكِ من طرفٍ،
وتراوحُ بينهما دورةُ الأرض، والشمسِ؛ حتى التواريخ َتُكتبُ باسمهما، وتدولُ الدول!" كنتُ أحلمُ منذُ صباي أن أصيرَ موسيقياً. كنتُ أزعمُ أن عواطفَ الموسيقيِّ تفيضُ وتخرج دون وسيط، إلا هذا التجريد الذي نسميه صوتاً. ثم صرتُ شاعراً، أتمرّغُ طيلةَ حياتي في صراع مع وسيطٍ غيرِ طيّعٍ، هو اللغة. ثم استعنتُ بالرسم، ولكن الألوانَ عصيةٌ شأن اللغة. اليوم، حين أكتبُ قصيدتي على الكومبيوتر أشعرُ بلذةِ التماسِّ بين أصابعي والمفاتيح؛ لعلها لذاذةُ البيانو المفتقدة. ولكني الآن أكتشف، بفضل رسالتك المتأخرة، أن العزلةَ التي يفرضُها الشعرُ على الشاعر تتطلّع إلى فعل المشاركة التي ينعم بها الموسيقي.
تمضي الرسائل
[post-views]
نشر في: 9 أكتوبر, 2016: 09:01 م