نمضي ليلتنا السحرية في بودابست نستمع الى الرابسوديات الهنغارية الشهيرة للموسيقار فرانز ليست أحد عظماء الموسيقى الرومانسية يعزفها على البيانو عازف كهل تضيء هالة شعر بيضاء ملامح وجهه النحيل ، طلبنا منه أنا وصديقتي أن يعزف لنا الرابسودي رقم 13 فصاحبه في العزف عازفو الكمان والكلارنيت والباص والسمبالوم فجاءت المقطوعة غاية في السحروالجموح والتلاوين المتناقضة التي تحيي الروح الوثابة لفرانز ليست العاشق والمجدد والشغوف بالحياة والموسيقى والنساء ، بعدها عزفوا الرابسودي رقم 19 ذات المزاج العاصف المعبر عن انتفاضات الروح والجسد ، يتبدل مزاج الرابسودي خلال ثوان متنقلا بين الألم الجارح والمرح الصخّاب : زوابع صوتية قاتمة وكئيبة وصادحة بالنشوة ، بعدها يرتد العزف الى القرار العميق الحزين وهي آخر مقطوعة كتبها فرانز ليست قبيل وفاته وكأنها مرثية نبوئية يختم به حياته الصاخبة .كنت في بغداد أطيل الاستماع الى أعمال فرانز ليست التي أحضرها لي ابني حين كان يدرس الموسيقى في كونسرفاتوار سان بطرسبورغ مع مجموعة أعمال تشايكوفسكي ورحمانينوف وشوستاكوفيتش وأعمال بتهوفن الكاملة وقد استوحيت قصتي (رابسوديات العصر السعيد) من موسيقى الرابسوديات الهنغارية لفرانز ليست وجموحه وحياته الدراماتيكية ،وها أنا الآن في بلاده أصغي لموسيقاه الحية التي كتبها للأسيانين والمنذورين للمحن ، كتبها مرثية للأرواح المهددة تارة وللاحتفاء بالعشاق والمتمردين الكبار تارة أخرى ، هو الذي جمع بين شغفه بالموسيقى الدينية وموسيقى الغجر وبدأ يعزفهما منذ طفولته.على نهر الدانوب – الذي لم يكن أزرق أبدا كما أوهمتنا مقطوعة شتراوس- تتقدم فرقة عازفين غجرية لتعزف الرابسوديات الهنغارية بأسلوب مختلف: رجال هم مزيج من الظلمة والنار، جلودهم القاتمة اللامعة مشدودة على عظام وجناتهم ، ملابسهم شعبية مطرزة بوفرة من النقوش، كانوا يبتسمون ويعبسون ويعبرون عن الأسى والحزن والخيبة بوجوههم وأجسادهم وهم يعزفون الرابسودي رقم 2 ، المقطوعة البطولية الممتزجة بلحن رقصة شعبية هنغارية ، تلك المقطوعة التي تعبر بدقة وصدق عن فرانز ليست، العاشق ومعبود السيدات في فيينا وبودابست وباريس وبرلين ، الموسيقار الملهم الذي كانت تطارده النساء في كل مدن اوروبا وكأن نبوءة والده عازف البيانو كانت تتحقق على امتداد القارة :- يا ولدي أخشى عليك من النساء ، أرى انهنّ سيؤثرن في تحديد مستقبلك..احدى الكونتيسات الفاتنات من الأسر الملكية عرفت بهوسها الجنوني بفرانز ليست، ،احتفظت بعقب سيجارته في قلادة ذهبية لبثت ترتديها حتى وفاتها، وعشقته الكاتبة الفرنسية جورج صاند ولولا مونتيز وبطلة رواية غادة الكاميليا والاميرة كارولين فتغنشتاين ابنة العائلة المالكة البولندية . مثله اشتهرت ابنته الحسناء كوزيما التي تزوجها فاغنر وجُنّ بها نيتشة وفرويد عشقاً وكانت ملهمة العظماء في زمنها وقد ورثت من والدها جمالها وجرثومة العشق الجامح المدمّر. كانت الرابسوديات المتوهجة المتقلبة المباغتة في صداحها وخفوتها وجموحها وجنونها هي الموسيقى المعبرة عن مزاج الموسيقار العاشق المتقلب بين عشق النساء والتدين والشك وعدم الاستقرار في مكان أو موقف شأنه شأن أحوال اوروبا في تلك السنوات ، أحبه المثقفون الأروبيون : فيكتور هوغو ولامارتين وهاينريش هاينه وكان معبود جماهير أوربا في سنوات الاربعنيات من القرن التاسع عشر واشتهر بسحر حضوره الذي كان يقود الجمهور إلى أعلى مستويات النشوة خلال عزفه على المسرح ؛ فتتزاحم عليه النساء المرموقات والأميرات ليحظين بمناديله وقفازاته وبعض سجائره وأوراقه لإشباع النزعة الفيتيشية عندهن عن طريق حيازة متعلقات المحبوب المادية والتعامل معها كأثر معبود..
"فرانز ليست" ورابسوديات العصر السعيد
[post-views]
نشر في: 15 أكتوبر, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...