- القسم الأول -(من المعروف أن التأريخ الاوربي، في الماضي، مرّ بفترات حكم مارست فيه الكنيسة والحكام والنبلاء شتى أنواع التزوير والقسوة والغرور والاستهتار. تعتبر اسرة البابا الاسكندر السادس بورجيا (1431-1503) مثالا حيا على ذلك.استولي الأب على منصب البا
- القسم الأول -
(من المعروف أن التأريخ الاوربي، في الماضي، مرّ بفترات حكم مارست فيه الكنيسة والحكام والنبلاء شتى أنواع التزوير والقسوة والغرور والاستهتار. تعتبر اسرة البابا الاسكندر السادس بورجيا (1431-1503) مثالا حيا على ذلك.استولي الأب على منصب البابوية في روما بالرشوة والاحتيال، وتبارى هو وعائلته في اعمال الفساد والصلف والتهتك وحب الذات. يسرد لنا المؤرخون والادباء اخبار هذه العائلة المجرمة بروايات وكتب تاريخية موثقة، اخرجت، بعدئذ بافلام تلفزيونية ومسرحيات، اظهرت قبح مساوئهم بقتل خصومهم السياسيين او بتسميمهم في طرق اشتهرت بالحيلة والغدر. كانوا النموذج الصارخ الذي يضرب به في بداية عصر النهضة الاوربية للحاكم المشحون بالغيرة والجشع والطيش والفجور. كما جعل الكاتب الايطالي المشهور مايكافيللي الولد الكبير للعائلة المسمى قيصر (1476-1507) صورة الحاكم المخادع في كتابه "الامير".جاءت اسرة بورجيا في الأصل من اسبانيا واستوطنت ايطاليا. تمكن الاب من الحصول على مقعد البابوية، وعرف الولد الكبير كيف يستغل مركز والده ليشن حروبا شعواء على الامارات المجاورة، دحر فيها بعض الامارات طمعا في تثبيت سيطرته وترسيخ دولة مستقلة وراثية على حساب الممتلكات البابوية. كما أقدم على اغتيال اخيه دوق غانديا وزوج اخته للتخلص منهما.
خاب طموحه في الاخير عندما توفي والده نفسه سنة 1503 ففشلت جميع مخططاته للحصول على السلطة. لقد كون له أعداء ألداء يمقتونه شر مقت. لذا سجنه البابا الجديد، وبعد فترة من سجنه فرّ هاربا سنة 1506 ليلتحق ببلاط صهره لكنه قتل بعد سنة من فراره اثناء احدى الحملات الحربية.
أما الابنة المسماة لوكريشيا (1519-1480) فكانت مخلباً ساماً في مخططات اسرتها الشريرة. دبروا لها عدة زيجات لتمشية اهوائهم واطماعهم. وكانت مشهورة بجمالها الأسباني. حاولت في نهاية حياتها ان تظهر اهتماما بالفنون... الخ، لكن سمعتها شوهت لارتباطها الحميم بعائلتها الجشعة ذات العلاقات الجنسية المريبة فيما بينهم والسمعة السيئة.
من بين الكتب التي وثقت بوضوح تاريخ هذه العائلة الفاسدة رواية الكساندر دوماس بعنوان "جرائم آل بورجيا" سينشر قسم منها الآن لدقتها واستخدامها التاريخ موضوعا في العمل الروائي.
**********
في التاسع من شهرآب اغسطس 1492م، كانت روما تنتظر، ومن ابعد نقطة في ضواحيها مجتمعة وكأنها على موعد، في ساحة القديس بطرس. كان الجمع من الضخامة بحيث امتلأت الشوارع الفرعية بالناس بعد ان فاضت الساحة بهم، كسجادة ذات الوان مختلفة. احتشدوا حول الكاتدرائية، التصقوا بالابنية الحجرية، وتسلقوا الاعمدة، داخلين البيوت، ظاهرين مرة اخرى في النوافذ، حتى كادت الوجوه تصبح حائطا في كل نافذة الان،ومع كل هذا الاحتشاد الضخم كانت العيون متعلقة بالفاتيكان، حيث اجتماع الكرادلة منعقد لانتخاب البابا الجديد..العيون تتركز على نقطة واحدة في بناية الفاتيكان، وعلى المدخنة بالذات، حيث الاشارة الاولى متوقعة لتعلن نتيجة ما تمّ في ذلك الاجتماع. وفجأة، واثناء ما بدأ الليل بالهبوط، قرعت الاجراس، فعلا الصياح مختلطا بقهقهات الضحك من الجموع الغفيرة الممزوج بالتنديد والمزاح. جرى ما جرى بسبب ظهور عامود دخان رفيع من اعلى المدخنة المذكورة متصاعدا الى اعالي الجو. كان هذا الدخان يعادل البيان الذي يصدر معلنا ان روما ما زالت دون سيد يحكمها وان العالم بدون البابا الجديد. اما سبب الدخان فكان نتيجة الحرق الذي جرى لاوراق الانتخاب لجميع الكرادلة، اولئك الذين لم يتفقوا بعد على انتخاب البابا ..
بمجرد ان ظهر هذا الدخان. اختفى فجأة. وباتت جموع المحتشدين مدركة ان ما من شيْء متوقع سيحصل هذه الليلة وستؤجل عملية الانتخاب الى الساعة العاشرة من صباح الغد، حين يجتمع الكرادلة للادلاء باصواتهم. انسحبت الجموع بضوضاء ومزاج متكدر بعد آخر عرض للالعاب النارية. ولم يبق في النقطة التي تجمعت فيها المدينة كلها، سوى مشاهدين قلائل متأخرين، كانوا يعيشون في الضاحية او قرب الساحة نفسها، فلم يكونوا على عجلة من امرهم للعودة الى بيوتهم. وحتى هؤلاء انصرفوا بصورة تدريجية عندما حلت الساعة التاسعة والنصف ليلا، ففي ذلك الوقت تصبح الشوارع غير آمنة. وسرعان ما خيم السكون الذي لا تقطعه سوى خطوات شخص وحيد على عجالة. اغلقت الابواب الواحد بعد الاخر، وانطفأت الاضوية التي كانت تشع في النوافذ. وعندما قرعت الساعة العاشرة ليلا، انغمرت البيوت والساحات والشوارع بظلام دامس، ما عدا نافذة او نافذتين ظلتا مضيئتين.
بمجرد ان دقت الساعة العاشرة، ارتفع رجل متلفع بإزار فضفاض كشبح امام احد الأعمدة التي تعود لاحدى الكاتدرائيات التي لم ينجز بناؤها بعد، زاحفا ببطء وحذر بين ركام الحجر الملقى حول أساس المعبد الجديد. سار خارجا الى أن وصل النافورة التي تقع في وسط الساحة، متوقفا هناك. ضاعف ظلام الليل وظلال النافورة من اختفائه ناظرا ما حوله ليتأكد من انه وحده. سحب سيفه، آنئذ، ضاربا به الرصيف ثلاث ضربات مشعلا النار في كل ضربة. لم تكن تلك الاشارة عبثا، فلقد انطفأ مصباح النافذة الوحيدة المضيئة في الفاتيكان وفي نفس الوقت رُمي مظروف للأرض من تلك النافذة، علي بعد خطوات قريبة من الرجل المتلفع. مدّ الاخير يده عليه بعجلة، يدله عليه، دون خطأ رغم الظلام، بلاط الشارع المرمى عليه.وبمجرد ان حصل عليه سار بعيدا وبسرعة.
استمر في سيره الحثيث دون توقف صوب تمثال للعذراء بقربه مصباح. اقترب من الضياء مخرجا المظروف الذي التقطه من جيبه فكانت فيه رسالة موجزة موجهة اليه، بدأ في قراءتها على الرغم من خطر التعرف عليه. لم يكن توقفه طويلا ليتم قراءتها فقد قرأها بعجلة شديدة ليعرف مضمونها ثم طواها ووضعها في محفظته، مرتبا ازاره ليخفي معظم أسفل وجهه، سائرا مرة اخرى بنفس السرعة. حينما وصل النقطة التي يريدها، قرع باب منزل جميل ثلاث مرات، ففُتح الباب فجأة . ركض بخفة الى أعلى السلم متجها لاحدى الغرف حيث هناك امرأتان تنتظرانه في صبر نافد:
- حسنا ، فرنسيسكو، ما الاخبار؟
صاحتا بصوت واحد بمجرد ظهوره امامهما.
- اخبار طيبة، يا امي، اخبار طيبة، ايتها الاخت.
واستمر بالحديث:
- حصل والدنا على ثلاثة اصوات من الناخبين اليوم، ولكنه ما زال بحاجة الى ستة اخرى لينال اغلبية الأصوات.
- اتوسل لله، أليست هناك وسيلة لشرائهم؟
صاحت المرأة الكبيرة.
- نعم بالفعل يا امي.
اجاب الشاب مستمرا :
- لقد خطر هذا لوالدي فاعطى كاردينال اورسينو قصره في روما، مع قلاعه في مونتسيلو وسوربانو. كما اعطى كاردينال كولونا الدير في سابيكو. واعطى كاردينال القديس انجلو قصر الاسقف في بورتو مع اثاثه وسرداب الخمر. اما كاردينال بارما فقد اعطاه مدينة نيبي، واعطى كاردينال جنوا كنيسة القديسة ماجوري ومدينة سفيتا كاستيلانا، وبالنسبة الى كاردينال اسكينو سفورزا فانه يعرف ارسلنا له قبل يوم امس اربعة بغال محملة بالنقود والسبائك الثمينة، ولقد وعد بايصال خمسة الاف من العملة الذهبية إلى كاردينال باتريك في فينيسيا .
- ولكن كيف سيعرفون برغبات والدك؟
سألت المراة الاكبر سنا
- توقع والدي كل شيء، واخترع اساليب بسيطة لذلك. انت تعرفين كم من المظاهر تجري اثناء عشاء الكرادلة؟
- نعم على محفة وفي سلة كبيرة تحمل شعار كل كاردينال موجهة اليه.
- اشترى والدي المطران الذي يفتش العشاءات. غدا يوم اللحم، والدجاج المشوي سيبعث للكرادلة المذكورين، وفي كل دجاجة صكوك الهدايا بالشكل المناسب اوقعها انا باسم والدي، من اجل البيوت والقصور والكنائس لكل واحد منهم.
- ممتاز
قالت امه.
- الآن أنا واثقة كل شيء سيجري على ما يرام.
- نعم، بالفعل يا امي .
اجاب الشاب مستمرا
في فجر اليوم التالي جاء الناس مسرعين للساحة مرة ثانية، متشوقين ومهتمين بالامر كما في السابق. وفي الساعة العاشرة صباحاٌ بدأ عامود الدخان بمهمة اخبارهم. لم يحصل احد من الكرادلة المرشحين للبابوية على اصوات كافية. وبدأ يتردد ان عدد المرشحين لمركز البابا قد تقلص عن ذي قبل، ووقع الاختيار على ثلاثة طموحين فقط وهم:
رودريكو بورجيا، وديلاروفير، واسكينو سفورزا. في الوقت الذي لم يكن احد من هؤلاء المتجمهرين عالما بالبغال الأربعة المحملة بالنقود وسبائك الذهب التي ارسلت للشخص الأخير منهم، وتبعا لهذا اعطى اصواته الى منافسه في نهاية الأمر.
في هذه اللحظات واثناء هذه الأجراءات الأخيرة، سمعت موسيقى دينية، جاءت من مسيرة الكهنة، وعزفت بايعاز من احد الكرادلة كشفاعة تطلب من السماء التسريع بانتخاب البابا. وبمجرد ان ظهر الصليب المحمول في رأس المسيرة، حتى ساد صمت تام فوق الجموع، وركع كل فرد في مكان وقوفه، مع صمت قصير وعبادة خاشعة، اعقبت الضوضاء والتشويش اللذين كانا سائدين قبل دقائق قليلة واللذين كثيرا ما يتخذان مظهرين منذرين بعد كل دخان جديد خارج من عمود المدخنة. لقد تصور اشخاص كثيرون ان المسيرة قصد بها تحقيق مأرب سياسي بقدر ما هو ديني، ولذا فان تأثيرها في الارض سيكون مساويا لتأثيرها في السماء. وهكذا مرّ اليوم.
لم يكن احد في روما يقوم، اثناء ذلك، بأداء اي عمل اخر، فهو اما ان يكون كاردينالا او تابعا له، ولا يعرف احد كيف تمضي امور الحياة. اصبح الجمهور اكثر كثافة من ذي قبل في الساعة الثانية عصرا. حين جاءت مسيرة لا تقل عن الأولى نجاحاٌ، من حيث اخمادها للضجة واعادة الصمت مرة أخرى، عبرت ساحة القديس بطرس وكانت من اجل غداء الكرادلة. قابلها الناس، دون شك بها، من كثرة الاحترام ، ولم يخطر لاحد أن هذه المسيرة الثانية ستكون اكثر فعالية من الأولى لانتخاب البابا الجديد.
قرعت اجراس كنيسة العذراء مثلما قرعت في اليوم السابق. وكانت التوقعات خائبة مرة أخرى، فبمجرد ان دقّت الساعة الثامنة والنصف حتى ظهر عمود الدخان ايضا من فتحة المدخنة.
في اليوم التالي بتأريخ 11 آب غسطس 1492 كان يوما معتماٌ وعاصفاٌ، ولكن هذا لم يمنع الحشود من الاندفاع كالسابق في الشوارع والساحات، الممرات والبيوت والكنائس. في الساعة التاسعة هبت ريح عاصفة مخيفة فوق المكان. الا ان الناس لم يعبأوا بالمطر ولا بالبرق والرعد. كانوا يفكرون في شيء اخر مختلف تماما، ينتظرون بابا لهم. وكان من السهل أن يُلاحظ ان المزاج السائد سيتعكر اذا مرّ اليوم دون انتخابه.
بينما كانت الساعات تمر، اصبح الهياج اكثر حدة. مرت الساعة التاسعة والتاسعة والنصف، ثم العاشرة الا ربعا ولا شيء يحقق او يخيّب امالهم. اخيراً في الساعة العاشرة، دقت الساعة وكانت عيون الجميع محدقة في المدخنة. الضربات تتوالى بعضها وراء بعض ببطء شديد، وكل ضربة تجد صداها في قلوب الجموع الغفيرة حتى وصلت الضربة العاشرة الاخيرة فماتت وهي ترجف بعيدة في الفضاء .. وفجأة علت صيحة هائلة من حناجر مئات الالاف تبعت الصمت الشبيه بالموت: : " ليس هناك دخان" وهذا معناه: "لدينا بابا" في تلك الدقيقة بدأ المطر بالهطول، ولكنهم كانوا يتجاهلونه، لشدة فرحهم ونفاد صبرهم. اخيرا وقع حجر صغير من النافذة الملتصقة بالشرفة، فهبت هتافات الترحيب لسقوطه. ازدادت فتحة النافذة اتساعا بالتدريج، حتى اصبحت كافية لتسمح بمرور رجل ليخرج الى الشرفة. ظهر وجه كاردينال اسيكنو سفورزا، وبمجرد خروجه فزع وكأنه خاف من عظم البرق والرعد. تردد قليلا متراجعا فانفجرت الجموع غاضبة عاصفة، تصيح بأعلى اصواتها لاعنة مهددة انها ستهدم الفاتيكان لتعثر على البابا بنفسها. جراء ما حدث عاد الكادرينال اسكينو سفورزا مرة اخرى الى الشرفة ، هلعا من غضب العاصفة الشعبية اكثر من غضب العناصر الطبيعية. ظهر للشرفة معلنا ما يلي، ما بين قصف الرعود وحبس الانفاس، فبدا الصمت غير مفهوم للشخص الذي سمع الهياج السابق:
"انا رسول الاخبار المبهجة ، لقد اختير افضل اللامعين المبجلين السيد روديكو لينزولوا بورجيا، رئيس الاساقفة في فلنسيا، وكارينال شماس الاساقفة في سانت نيكولاس انكاسير ووكيل الاستشارة في هيئة الكهنوت. البابا الجديد، الذي اتخذ له اسم الكساندر السادس".
يتبع