بيمارستان بغداديفي صباح ساخن استيقظ الكاتب ضجراً، أراد أن يكتب شيئاً ما في هذه القصة، فلم يستطع، لعن درجات الحرارة المئوية، وقرر أن يذهب إلى عمله مبكراً، عسى أن يستطيع هناك كتابة القصة، وجد أن الموظفين وصلوا مبكرين قبله إلى العمل، لكنهم لم يصعدوا إلى
بيمارستان بغدادي
في صباح ساخن استيقظ الكاتب ضجراً، أراد أن يكتب شيئاً ما في هذه القصة، فلم يستطع، لعن درجات الحرارة المئوية، وقرر أن يذهب إلى عمله مبكراً، عسى أن يستطيع هناك كتابة القصة، وجد أن الموظفين وصلوا مبكرين قبله إلى العمل، لكنهم لم يصعدوا إلى غرفهم، حتى الوزير نفسه كان يجلس تحت إحدى الشجيرات تحيط به حمايته كظل من شمس آب اللهاب، قالوا إن أجهزة التبريد بدأت تنفث هواء ساخناً، وإنهم بانتظار مهندسي الصيانة لإصلاحها، ولكن لا أحد يعرف لم تأخروا، اتصل الوزير بحزبه لمعرفة سبب تأخر المهندسين، قالوا له إنهم بانتظار المهندسين أيضاً؛ لأن أجهزة التبريد تنفث الهواء الساخن منذ الصباح، فاتصل برئاسة الوزراء فجاءه الجواب مشابهاً، لكنهم أخبروه أن يعيد الموظفين إلى بيوتهم بلا ضجة، لكيلا ينتقل الخبر إلى وكالات الأنباء، أو وسائل التواصل الاجتماعي، وفعلاً لم يصل هذا الخبر حتى الآن، أما الخبر الذي ظهر في الصباح الساخن، فهو احتراق ثلاثة عشر طفلاً في ردهة الخدج، في بيمارستان بغدادي بعيد عن دجلة، وأن مهندسي الصيانة في طريقهم إلى إصلاح أجهزة التبريد في البيمارستان، وحده الكاتب استطاع أن يربط بين خبر احتراقنا وعطل أجهزة التبريد في بنايات الدولة، فكتب هذه القصة.
هذه الرواية مفقودة
لست كاتبة معروفة، فلي رواية واحدة فقط، وربما هي قصة طويلة، صدرت منتصف الستينات تقريباً، ووزعت في عدد من المكتبات، وكتبت عنها بعض الصحف حينها، أهديت صديقاتي وزملائي في المدرسة نسخاً منها، وقمنا أنا وزوجي بتوزيع نسخ من الرواية على المكتبات البغدادية العامة جميعاً؛ بل أننا وزعنا نسخ الرواية على المكتبات العامة في المحافظات في عدة رحلات جميلة، لكنني تركت الأدب بعد الزواج لسبب أجهله، ولم تبق في بيتنا سوى ثلاث نسخ من الرواية وضعتها في المكتبة، في صالة البيت.
واليوم وقد مضت بضع سنوات على تقاعدي، قررت أن أعيد طبع الرواية، فقد قرأت أن الحركة النسوية الأدبية في ازدهار، وأن هناك الكثير من المقالات النقدية والدراسات حول الروايات النسوية ...
بحثت عن نسختي من الرواية في صندوق أوراقي فلم أجدها، بحثت عن النسخة التي أهديتها إلى المرحوم زوجي فلم أجدها، وجدت بضعة كتب في غرفتي وفي صالة الاستقبال، ولكن الرواية لم تكن بينها، ذهبت إلى مكتبة كلية التربية حيث درست هناك فلم أجدها، قالوا لي إن المكتبة تعرضت للتخريب بعد الأحداث، وربما فقدت الرواية، ذهبت إلى مدرستي حيث كنت أعمل حينذاك، فوجدت أن غرفة المكتبة تحولت إلى قاعة صف، ذهبت إلى مكتبة الأوقاف العامة فلم أجدها، قالوا لي إنهم يحتفظون برواية الأحاديث فقط، ذهبت إلى المكتبة الوطنية فوجدتها في الفهرست تحت الرقم 1958/803 ففرحت كثيراً كثيرا، وكتعبير عن فرحتي رجوت الموظفة أن أستلها من الرف بنفسي، ولكننا لم نجد نسخة منها مع أن سجل الايداع في المكتبة يشير إلى وجود ثلاث نسخ منها، لا أدري إن كنت قد بكيت؛ لأن السيد مدير المكتبة الوطنية نزل من مكتبه واشترك معنا في البحث عنها، قال: إن المكتبة فقدت الكثير من كتبها، بسبب الأحداث وتغير الأنظمة السياسية، ونصحني أن أتصل بالدكتور نجم عبد الله كاظم، فقد أصدر في هذه السنة، عن دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، كتابه (فهرست الرواية العراقية 1919ـ 2014) وربما يكون قد اطلع عليها، لأنه قام بتوصيف الكثير من الروايات، ولم يكتف بفهرستها فقط، فرح الدكتور نجم كثيراً حالما سمع باسمي، ورجاني أن يحصل على نسخة من الرواية؛ لأنه اعتمد في فهرستها على سجلات المكتبة الوطنية، وخبر صدورها في جريدة المنار في الستينات، ولم يجد نسخة منها، وكم خجلت عندما أخبرته إنني فقدت نسخي الخاصة من الرواية، فتأسف كثيراً.
أخيراً فتحت الموظفة الطيبة فسحة في النص، قالت إن والدها عمل في المكتبة لأكثر من ثلاثين عاماً، ثم عمل في بيع الكتب القديمة في شارع المتنبي بعد تقاعده، وما زال يحتفظ بذاكرة ممتازة للكتب، وقد تذكر اسمي فعلاً، قال إن روايتي موجودة في المكتبة عند تقاعده، ولكن الذين استعاروها لا يتعدون الخمسة أشخاص، ثم طلب مني ملخصاً للرواية، مع أسماء شخصياتها الرئيسة، فاطمأن إلى إجابتي، طلب من ابنته أن تعد لنا أقداحاً من نومي البصرة الساخن، قال : إن روايتي اختفت نسخها تدريجياً من المكتبات والبيوت، واليوم قد فقدت تماماً، بسبب فقدان شخصياتها جميعاً ...
قاطعته قائلة : إن الرواية انتهت نهاية سعيدة، فلا موتى فيها، ولا صراعا طبقيا، أو حزبيا، مجرد مشكلات حياتية، مثل روايات إحسان عبد القدوس، فقد كنت متأثرة به!
لكنه استمر في الحديث، قال : هذا بسبب الحرب؛ لأن الكثير من الشخصيات الروائية تستمر في الحياة بعد انتهاء الرواية، لحاجة الحرب إلى الوقود، وبعض الشخصيات تلاقي مصيراً مختلفاً ... أشارت ابنته لي أن أسكت؛ حتى لا أقطع ذاكرته، فأضاف بثقة : لقد قتلت الشخصية الأولى في الحرب العراقية الايرانية، وفي التسعينات هاجرت شخصية أخرى إلى الخارج، ثم تزوج من سيدة أمريكية متقدمة في السن، واستقر هناك، وتعرضت إحدى الشخصيات النسوية في الرواية إلى حادثة قتل بعد تجاهلها تحذير إحدى العربات العسكرية في بداية العام 2004، ثم تعرض زوجها للاختطاف بعد أن تسلم حصته من ميراث والده، لكن ابنتهم ذات العشر سنوات نجت بأعجوبة من عمليتي القتل والاختطاف، وقبل سنة تقريباً تزوجت ابن عمها، ثم أنجبت طفلاً قبل موعده بقليل في مستشفى اليرموك، كان تحت الرقم 3 باسم والدته متفحماً بسبب الحريق.