لا أحد في هذا العالم لا يحب ان تقام تماثيل ونصب وشواهد فنية تمثل وتشير الى شخصيات مهمة ومؤثرة في البلد الذي يعيش فيه أو ينتمي اليه. هذه من بديهيات المعرفة والثقافة والارتباط مع القيم والرموز المهمة، والاشارة الى ما قدمته هذه الشخصيات من إنجازات استثنائية وإضافات جمالية لوجه البلد الحضاري. الانسان السوي والعادل والجميل سيفرح بالتأكيد وهو يرى في هذا الشارع تمثالاً لموسيقي مهم، ووسط ذلك المتنزه نصباً لشاعر عظيم، وعلى ناصية هذه الاستدارة عمل يشير الى بهجة الحياة ويضيف التماعة جمالية تنتمي الى روح البلد. ستنتعش الثقافة، وستفرح الناس بشكل عام وهي ترى مدنها تتزين بأعمال فنية راقية وجميلة وممتعة بصرياً. ليس الناس فقط، بل المدن نفسها ستشعر بالسعادة وتتحول الى عرائس، وهي تفتح ذراعيها لتحتضن اعمالاً فنية تشير الى مبدعيها وابنائها الذين رحلوا وتَرَكُوا خلفهم تاريخاً حافلاً بالانجازات والجمال والمعرفة.
لكن مع كل هذه المسلمات والثوابت التي لا يختلف عليها احد تقريباً، يظهر سؤال مهم وحقيقي في الأفق، يقترب السؤال منّا أكثر ليطرح نفسه بقوة ويقول، ما جدوى نصب مثل هذه (الاعمال الفنية) اذا كانت لا تشير بشكل جميل الى الجمال الذي تركه هؤلاء العباقرة؟ وبمعنى آخر، ماذا نريد ان نقول ونحن نضع أعمالاً في اماكن عامة، هي في الحقيقة ليست اعمالاً فنية ولا تملك مواصفات جمالية إيضاً، لأنها في واقع الحال عبارة عن كومة من البرونز لا اكثر ! وكأن من اختارها وقدمها يبدو هنا مثل شخص يريد ان يقدم لنا وردة، وهو لا يعرف شكل الوردة ولا لونها ولم يستنشق عطر رحيقها من قبل. بهذه الطريقة ستمتزج حياتنا بالكثير من القبح والتراجع والخيبات الفنية والثقافية، وعلينا -أكثر من أي وقت مضى- ان نجد الطرق والحلول لذلك ونثير التساؤلات، فإذا لم ندافع عن جمالنا بطريقة صحيحة، ستعم الفوضى بدلاً من التناسق، وسيواجهنا التنافر وهو يغتصب المكان ويستولي عليه بشكل عشوائي، ليغلق الطريق امام التكوينات الجميلة. الدنيا مليئة بالجمال، وشِبّاك الحياة مفتوح على تنوع مدهش ورائع ويلهمنا الكثير، فَلِمَ هذا الإيغال في القبح وَلِمَ كل هذه الضغينة ضد الجمال الذي نتمناه لبلدنا، هذا البلد الذي كان وما يزال منجماً لمبدعين وعباقرة كبار على كل الصعد؟ لماذا يصر البعض على وضع تماثيلٍ، هي في الحقيقة ليست تماثيل فنية، وإقامة نصب هي في واقع الحال (نَصْب) على الجمال في وضح النهار؟
اذا لم تستطيعوا اختيار اعمال جميلة ومناسبة فدعوا الشوارع فارغة من التماثيل الى ان يتماثل البلد للشفاء ثقافياً، واتركوا الفضاءات مفتوحة الى ان تنضج ثمرة الذائقة. البرونز موجود في كل مكان في العالم، لكن الناس في أرجاء المعمورة لا يدلقونه هكذا في الطرقات دون حسابات جمالية وفنية وشروط تتعلق بمواصفات العمل الفني والمكان، ودون النظر الى تأثير كل ذلك بصرياً على الناس. اكتب حول ذلك لأَنِّي رأيت أعمالاً صُنِعَتْ على عجل، لتمثل شخصيات عراقية مهمة، وقد وضعت في أماكن معروفة وسط بغداد. فمن تمثال جواد سليم الذي وضع قرب سياج متحف كولبنكيان، الى تمثال الجواهري الذي تربع في اتحاد الأدباء، مروراً بالمنحوتات الغريبة التي وضعت في أماكن عديدة اخرى. وهكذا تمتلئ الأماكن والساحات بأعمال هابطة ولا تملك المواصفات المطلوبة. لماذا لا تٌكَلَفُ جهات مختصة بتحديد ذلك وتختار الأعمال المناسبة والمهمة والجميلة عن طريق إقامة المسابقات التي تشرف عليها لجان تحكيم تملك الشروط لذلك مثلما فعلت جمعية التشكيليين قبل فترة وجيزة بإقامة مسابقة لنصب يمثل كارثة الكرادة، والتي فاز بها عمل النحات المبدع هيثم حسن. أرى ان جمعية التشكيليين ووزارة الثقافة هما الجهتان المناسبتان لتبني هكذا مشاريع جمالية وتاريخية مهمة، وإلا ستمتلئ أماكننا الجميلة بأعمال لا تمت للجمال بصلة.
متى ستنضج ثمرة الذائقة؟
[post-views]
نشر في: 28 أكتوبر, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...