TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بغداد علي بدر

بغداد علي بدر

نشر في: 30 أكتوبر, 2016: 09:01 م

أصدر الراحل أحمد مهنا كتابه "من لا يكره بغداد" (دار نون) ، مستوحياً العنوان من بيت ورد في قصيدتي "حسين مردان"(1972)، يقول: "كان يكره بغداد لكنه/ حين يستودعُ الله فيها.. يموت". لأن كراهيةَ بغداد لدى العراقي تعبيرُ حبٍ محترق، فيه من الرماد عتمتُه ورائحتُه.
حين رجعتُ من إيطاليا الأسبوع الماضي كانت معي بضع روايات لعلي بدر، عن "دار المتوسط"، قرأتها وتوقفت عند رواية "الجريمة، الفن، وقاموس بغداد". حين أكملتها أحسست أنها أجملُ أنشودة حب لبغداد سمعتها حتى اليوم. ولكن هذا الحب بلغني على هيئة شبكة كثيرة الخيوط، كثيرة العقد. فالرواية تنصرف إلى مغيب بغداد في القرن السابع الهجري. وتتحدث عن "الأخوّة الخواجات"، الذين ارتبطوا، بصورة غامضة، بـ "رسائل إخوان الصفا"، كمرجع لا يخلو من قداسة، وسعوا إلى رعايةِ حبٍّ روحيٍّ وعقليٍّ لمدينتهم الخالدة "بغداد"؛ ولم يغفلوا الحبَّ الحسي. هذا الحب الرحب بأبعاده الثلاثة، الذي يكفل بعثَها من جديد، رغم كل الويلات التي أُصيبتْ، وأُصيبوا بها.
أحداثُ الرواية وشخوصُها تفيض بتشويق لا أريد إفسادَه على قارئها؛ ولكني حريص على الانصراف لهذا الحب القاسي، أستدعي عبره كتابين أثيرين لديّ: "الرسالة البغدادية" للتوحيدي، و"لعبة الكريات الزجاجية" لهيرمن هيسة.
لقد أعطى علي بدر للحب في فلسفة الخواجات عنصرَه الأرضي، حبَّ الحياةِ ومسرّاتِ الأبيقوريين. ولذا أبقى للخواجات وبغدادِهم اللذاذةَ الحسيةَ في العلاقة مع المرأة، الخمّارة، الطبيعةِ الغنية بالماء والثمر. وهنا استدعي رسالةَ أبي حيان، وبطلَها أبا القاسم البغدادي، الذي أعطاه كلَّ توقّد حواسه، يريد أن يُفرغَ عبرها رغائبَه الأرضية. تدفقُ نثره في تعداد محلات بغداد، وأنهارها، وأطعمتها، وفواكهها، وتمورها، وخماراتها، ومزة الشاربين فيها، وأزيائها وعطورها، ومغنياتها..هو تدفقٌ موسيقيٌّ لأنه يُخفي تحت غلالته حباً عجيباً لبغداد:"معشوقةِ السكنى.. والغايةِ القصوى". علي بدر يلتقي أبا حيان في هذا التسامي الحسي لمدينتهم المعبودة: "الانتساب الفوري للعالم المحيط بنا، وفي المدينة التي نعيش فيها، قريباً من المزارعين النبط..وقريباً من الرعاة السريان..ومن رحم العمل الذي يؤديه بنّاءٌ لحمّام، أو مهندسٌ لقصر في حيّ من أحياء بغداد."
ولكن بغداد الخواجات هي مدينة التساميات الروحية والعقلية بالدرجة الأولى. وعلي بدر يوزع الزعامةَ الثلاثيةَ للجماعة، "مثلث الحكمة"، على مهمات واضحة: "كان الخواجة يعقوب أقربَ إلى تفضيل المعرفة البيانية، وكان الخواجة نور الدين أقربَ إلى تفضيل المعرفة البرهانية، وكان الخواجة علاء الدين أقربَ إلى تفضيل المعرفة العرفانية؛ وبين البيان والبرهان والعرفان كنا نلجُ ـــ نحن طلاب مدرسة الحكمة ـــ عالماً جديداً من الأفكار. لقد أصبح هذا الفكرُ رؤيا وسحراً واختراقاً وتوهجاً ونفاذاً إلى العالم النقي، وهو عالم الجمال الحقيقي." وهنا أستدعي "لعبة الكريات الزجاجية"، في تساميها الذي ينفرد به العقل وحده، سمة الفكر الألماني، كما يراه هيرمن هيسة. ولذلك لم يجعل بطله "كنيشت" على انسجام مع تساميه في عالم "كستاليا" الفاضلة، الذي ينحو باتجاه التجريد الرياضي. بغداد علي بدر تتسع لكستاليا العقلية، ولنقيضتها الأرضية. فهي مدينة الجمال، الذي لا يستقيم إلا بأبعاده الثلاثة: الحسي، الروحي والعقلي. الخواجات لهم نساؤهم، يتعبّدون جمالهن، ولذاذة أجسادهن؛ ولهم فتنةُ العمارة والرسم (رسوم يحيى الواسطي لرسالة إخوان الصفا المفقودة عنصرٌ مقدس داخل أحداث الرواية.): "ثم قال: ما دمتَ قد سرحتَ مع الفنان بوجدانك فيما وراء الزهرة المصوَّرة، فلا سدود عندئذ، ولا حدود. بل ستظل غارقاً في بحر الوجدان حتى ينتهي بك آخر الأمر إلى اللامتناهي واللامحدود. إلى الحق الواحد الذي هو جوهر الوجود."
هذه الرواية ليست عودة إلى التاريخ، بل محاولة لاستحضاره على هوى الوجدان العاشق. إن بغدادَ علي بدر، وبغدادَ التوحيدي، وبغدادي أنا، وبغدادَ كل مُقتَلع الجذر من تربتها، لا بد أن تتسامى من الأرضي، إلى الروحي إلى العقلي، لكي تفي بحق شيء يسير من هذا الحب الذي يختلج في كياناتنا اليتيمةِ دونها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram