ثلاث سنوات كاملة انتظرت كما انتظر الكثيرون افتتاح معرض الرسام العبقري ألما تادما ( ١٨٣٦-١٩١٢) في متحف فريسلاند شمال هولندا، فترة طويلة جداً من التحضيرات والترتيب وتهيئة كل التفاصيل لإنجاح هذه التظاهرة الكبيرة وإقامة معرض مهم سيبقى في الذاكرة الى الأبد. من المصادفات الرائعة ان المعرض يبعد عن بيتي مسافة نصف ساعة بالسيارة، وقد أعلن المتحف بأنه سيمدد وقت الافتتاح ساعة إضافية بسبب الإقبال الكبير على المعرض. وصلت المتحف قبل الساعة العاشرة صباحاً، كنت أظن بأني قد حضرت مبكراً، وهذا ما كنت أريده بالضبط، لكني فوجئت بالناس وهي تملأ المكان، حيث الزوار يقفون في ثلاثة خطوط طويلة لشراء التذاكر. مرَّ بعض الوقت قبل ان احصل على تذكرتي ودخلت المتحف، لأتجول وسط هذه الجموع وأتحسس بنفسي وعن قرب عظمة ألما تادما.
هنا في المتحف حيث تحيطني أعمال تادما لتتدفأ بها روحي كما أتدفأ وقت الشتاء بمعطف صوفي نادر، أرى الناس تتزاحم امام اللوحات وأنا أفكر باليد المبدعة التي انجزت كل هذا الجمال، وأتساءل، كيف لشخص واحد ان يقدم كل ذلك؟ كيف للجمال أن يمضي بِنا بعيداً نحو عذوبة من هذا النوع؟ كيف انبرى رسّام واحد ليصوغ كل هذه الأشكال الساحرة؟ من أين له ان يهب مثل هذه الروح الملونة لقماشات الرسم ويجعل الكانفاس يسكر وينتشي بكل هذه العظمة؟ تُرى من أين جاء تادما بكل هذا الخيال وهو يحرك شخصياته التي يرسمها كما يحرك ممثلين على خشبة المسرح؟ اسئلة كثيرة لا حصر لها خطرت على بالي وأنا أقف امام هذه النوع الفاخر من الرسم. أصابني الذهول بل دبَّ الخدر في حواسي، فجلست على أريكة بيضاء تواجه لوحة (العثور على موسى) وبدأت أتأمل هذا العمل الكبير. انها لوحة متكاملة من كل النواحي حيث تحمل فتاتان جميلتان القفة التي عثر على موسى وهو يرقد فيها، تحملانها الى أعلى حيث يسير الركب الذي تحمله سواعد مجموعة من الشباب بملامحهم السمراء الجميلة وسواعدهم القوية، حيث تجلس في الأعلى زوجة الفرعون، يحيط بكل ذلك بعض الشخصيات التي تكمل المشهد وكذلك بعض الجموع البعيدة على الضفة الأخرى من نهر النيل. رسم تادما هذا العمل المدهش سنة ١٩٠٤ لأحد الأثرياء وجامعي اللوحات الإنجليز، والذي كان مفتوناً بمصر وتاريخها، وقد عمل هذا الثري في بعض المشاريع المائية في مصر وجمع أموالاً كبيرة، وقد طلب من تادما ان يرسم له لوحة حول العثور على موسى. عندها سافر رسامنا العبقري الى مصر ليطلع على الأجواء هناك ويطالع سحنة الناس ويرى الرسومات القديمة والأزياء والتفاصل الصغيرة ويتعطر بنسمات النيل، ليعود الى مرسمه في لندن ويباشر العمل في واحدة من اعظم لوحاته.
لكن من المؤسف ان هذه اللوحة وبعد سنوات من رسمها لم تحظ بالأهمية التي تستحقها، ولم يلتفت اليها أحد بعد ان بدأت الناس تنجذب اكثر نحو الأعمال التعبيرية والتجريدية والتكعيبية وغيرها من الأعمال التي كانت حديث الناس والمهتمين في النصف الاول من القرن العشرين. ووصلت الحالة أشدها في سنوات الخمسينات حيث كانت هذه اللوحة معروضة في غاليري نيومان بمدينة لندن، وقد حاول الغاليري جاهداً أن يبيعها لكنها لم تثر اهتمام احد، وحاول الغاليري هذه المرة ان يهديها الى بعض المؤسسات أو المتاحف لكنه لم يجد ايضاً من يتحمس لذلك. الى ان جاء احد (مقتني اللوحات) واشتراها بمبلغ ٢٥٢ باوند. لكن عند إقفال الغاليري عند الظهيرة وجدها صاحب الغاليري ملفوفة على شكل رول ومركونة على الجدار الجانبي للغاليري، حيث نُزِعَتْ من الإطار. ليتضح ان من اشتراها أراد الحصول على الإطار الذهبي فقط بهذا الثمن ولم تعنه اللوحة في شيء. هذه اللوحة نفسها بيعت سنة ٢٠١٠ في مزاد سوثبي بمدينة نيويورك بمبلغ ٣٦ مليون دولار!! أجلس قبالتها الآن في المتحف وأبتسم وأنا أفكر بحكايتها التي هي حكاية الفن التي تتكرر على مر العصور.
يتبع
الرسام العبقري ألما تادما
[post-views]
نشر في: 4 نوفمبر, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...