في خيالها..صورنابضة..لمنزلها الذي اعتصرت خلاصة عمرها وهي تمارس الأشغال الشاقة لتلظم عقد طابوقه ولتصنع سقفاً يحتويها واولادها بعد ان فارقها زوجها مفقودا في حرب خاسرة تاركاً اصغر اولادها الثلاثة (لحمة حمراء )...
انتظرت عودته لسنوات طوال..عللت نفسها بالأحلام لتقاوم اليأس فهي لاتريد ان تصدق انها ستقضي حياتها بدونه...وبمرور السنوات، تغيرت ملامح احلامها..فمن حلم وردي باهت بحضن دافئ وراحة وامان في كنف رجل،الى احلام اكثر وضوحا بمصدر رزق دائم يكفي لإعالة اطفالها وتعليمهم، ومنزل صغير يكفي لايوائهم مع الكثير من ( الستر ) و(العافية ) لضمان تحقيق احلامها...
حرثت الأرض باظافرها وسهرت على رعاية ماشيتها..تعلمت كيف تبيع محصولها وتعد الوريقات المالية وتدخرها لتنسج كيانا لم يجد زوجها وقتاً لاتمامه..اسعدها كثيرا ان ترى ابنها الاكبر شاباً يستعد للزواج ثم اباً لعدة اطفال لونوا حياتها القاتمة بضحكاتهم البريئة، وصارت ترقد بسكينة واطمئنان بعد ان وجدت من جديد رجلا تتكئ عليه..يكفيها فخرا انها منحته السقف ومصدر الرزق الدائم وتركت له ( القيادة )...
فجأة، تلبدت سماء القرية بسواد رايات رجال (داعش ) فخشيت ان يجرف سيلهم ولديها او تصبح ابنتها لحماً رخيصاً بأيديهم..قررت الرحيل ومغادرة الارض والبيت الأثير ومسقط الرأس وموطن الصبا ومرابع العشق الاول..والاخير..جلدتها نظرات العجز في عيون اولادها واحفادها فابتعلت مرارة قرارها عنوة وغادرت قريتها..
ثلاث سنوات، استسلمت فيها لكابوس قض مضجعها..تهاوى سقف منزلها لتنام تحت خيمة يخترقها البرد القارس وتغرق ارضيتها الرملية الأمطار، وفي الصيف، كان الحر القائظ يطرد النوم ويحل الناموس ضيفا بدلا منه...لسعتها سياط الجوع فاجتهدت في تدبير لقمة تسكت بها صراخ احفادها...كانت تمضي يومها في نقل دلاء الماء من خزان مخصص للنازحين لتجنب ابنتها وكنّتها الخروج من الخيمة...ثلاث سنوات من الجوع والذل والحرمان ووجع الشوق الى الديار والخوف على الأحبة... فقدت اصغر احفادها بسبب مرض من امراض (النزوح)، فصار عليها ان تمنح القوة والصبر لوالديه رغم ان فاقد الشيء لايعطيه...!
متى ينتهي الكابوس ؟ صا ر التساؤل هاجسها الوحيد بعد ان فقدت القدرة على احصاء الايام وحساب الخسائر ,, واخيرا، لمع ضوء خافت في حلكة ايامها حين اختفت الرايات السود من ديارها وابلغت بضرورة العودة اليها...رقص الأمل في اعماقها من جديد.. سيؤويها سقفها الأثير وسيمرح احفادها في حديقتها.. ستنفخ الخصوبة في رحم ارضها التي اصبحت بورا بعد رحيلهم عنها وتملأ حظيرتها بالمواشي..
وانتهى الكابوس.. وعادت الى الديار.. لكنها لم تجد أي وجه للشبه بين ماعلق في ذاكرتها ومابقي منه.... أطلال وعربات محترقة وادغال موحشة.. بقايا حلم لذيذ عتيق..
اين ستقضي ليلتها الاولى.. لم تبق من منزلها الا حجرة واحدة تهاوى نصفها..غاب السقف الذي حلمت به طويلا فغاب معه الأمان... لوهلة، شعرت باليأس من الإمساك بتلابيب حياتها الماضية والمضي قدما، لكنها لمحت ابنها واولاده وهم ينظفون فسحة من حطام منزلهم ثم يحيطونها بكدس من الاحجار لتصبح حجرة مسيّجة.. ابتسمت وفكرت.."لم يبق الا السقف..ومن يصنع الجدران ليحمي عرضه، سيكمل السقف حتماً "...بأيديهم سيكتمل البناء.. المستقبل لهم.. سيلقون الماضي خلفهم ويبدأون من جديد..وبهم..سيهدأ وجع الليلة الاولى...
الليلة الاولى
[post-views]
نشر في: 4 نوفمبر, 2016: 09:01 م