TOP

جريدة المدى > عام > انثربولوجيا الثقافة.. والعلاقة بين الجماعات

انثربولوجيا الثقافة.. والعلاقة بين الجماعات

نشر في: 8 نوفمبر, 2016: 12:01 ص

الثقافة في المفهوم الانثربولوجي هي ما تنتجه الجماعات من تقاليد وطقوس وحكايات وأزياء ، وأغان متنوعة ، مرتبطة بالفصول ، مع عادات خاصة ، تظل كل هذه وغيرها حاضرة في التداول بين أفراد الجماعات المعينة ، تضيف عليها وتطرد منها ما تجده لا ينطوي على قدرة للتع

الثقافة في المفهوم الانثربولوجي هي ما تنتجه الجماعات من تقاليد وطقوس وحكايات وأزياء ، وأغان متنوعة ، مرتبطة بالفصول ، مع عادات خاصة ، تظل كل هذه وغيرها حاضرة في التداول بين أفراد الجماعات المعينة ، تضيف عليها وتطرد منها ما تجده لا ينطوي على قدرة للتعايش مع الحوار ، وينفتح على ما هو للآخر ، يأخذ منه ويعطيه ما يراه صالحاً له ويعمقه ويضفي عليه بعضاً من روحه الحية ، اليقظة التي أنتجتها جماعة ما ... هذا التجاور ، الأخذ والعطاء هو الرضا بثقافة الآخر والقبول بما أنتجتها وشكله عبر زمن طويل جداً . هذا التجاور والاحتكاك والتبادل بين عناصر ثقافة ما، هو الذي نؤكد عليه بوصفه حواراً مع الآخر ، مثلما يفعله الآخر معنا ، هذا الرضا بالتبادل المشترك هو الذي يضفي على المشتركات روح الحياة والقبول بالتنوع الثقافي. كل الذي انتجته الجماعة واشرنا له قبلاً هو هويتها ، أو ذاتها المعبر عنها بتنوعات السرد، والتي كانت وظلت حاضرة طويلاً  فقدت بعضاً من تخيلاتها وحازت أخرى ، بحيث تشكلت لديها هوية قادرة على البقاء ، والتخندق ، مثلما هي مستعدة للمنح والأخذ . وما يميز كل جماعة من الجماعات هو مألوفها وكل ما عرفته من سائد ثقافي وحاضر يومي . أن الحضور الهوياتي أمر جوهري ومركزي في الحياة والانثربولوجيا لكل جماعة من الجماعات وهي - الجماعة- القادرة على الحفاظ عليها وصيانتها وحمايتها ، لان الجماعة ترى في ثقافتها حضورها الدائم والمستمر والذي نجحت في تكريسه ودافعت عنه. وكل جماعة حافظة لسرديات كثيرة تومئ للدور المعطى للحفاظ عليها ، لأنها تدرك جيداً بأن ما صاغته ـ الجماعة ـ منذ مئات السنين هو تمثيلاتها للذات الجمعية . التي بالإمكان الدنو منها والتوجه نحو الآخر من اجل تعزيز الحوار مع المنوع الآخر ، وكلما تنوعت الحوارات وازدادت وتعمقت ، عبرت عن حيوية هذه الجماعة وأصالتها وقوتها في حماية عناصرها الثقافية وخصائصها الاجتماعية . السعي من اجل تنوع الثقافة يغذي روح الجماعة بهواء نقي ويوفر لها فرصة تجدد خلاياها من خلال القبول بالآخر والتعايش المشترك ، والابتعاد جهد الإمكان عن تغيب التنافس المشحون بالتوتر والاستعداد للإعلان عن فرص الصدام أو تفجيرها .
هذه مرحلة خطيرة جداً ، عاشتها قبائل وشعوب في المنطقة العربية ، جعلتها منغلقة ويائسة لا تقوى على تحديد حياتها وتفعيلها وإضفاء ملامح جديدة كلياً على ما أعلنته عبر سنوات ومنحته حرية الحراك والحوار مع الآخر . ان الحديث ( حول التوحيد التكاملي بين الثقافات ، هو أمر حقيقي وواقعي . إذ أن الثقافات البشرية جميعها ومن دون استثناء يتغذى بعضها من البعض الآخر ، بما فيها ثقافة الآخر . وقد أشار لذلك المفكر ادوارد سعيد الى أن الثقافات تتغذى وما زالت تتغذى ، بما في ذلك ثقافات الشعوب المستعمرة ( بفتح الميم ) في آسيا وافريقيا والتي وصفت في المركزيات الظالمة / المتسلطة بالثقافات الهاشمية ، التي لا قيمة لها مقارنة بالثقافات التي أنتجها الآخر / يوسف يوسف / التنوع واستقلال الحيز الثقافي / مجلة المنتدى / العدد 259/ 52//
تتحول الثقافة التي تعيش طويلاً الى تخيلات موروثة ، يغذيها الزمن الجديد ، ويجعلها مجوهرات ، تتعامل معها الجماعات بوصفها رأسمالاً رمزياً ، مكوناً من تنوع مثير لن تتوقف ، لان ذلك يعني تعطله ومواته . وللثقافة الحقيقية التي عمدتها الجماعة بالدفاع عنها آليات سلمية ، لن تسمح للآخر بتفكيكها ، وتذهب الى تعزيز جوهرها بالانفتاح على التنوعات الخاصة بالآخر لتأخذ منه وتتغذى كي تحصن تنوعها . فلا وجود لثقافة ذات نوع واحد ، لان هذا يعني الموات والتصحر ، وفقدانها خاصية إثراء حياة جماعتها وجماعات الآخر . وتخندقت جماعات قبائلية حول عناصرها وأغلقت الأبواب ضد الوافد / الآخر ، وهي لا تدري ، بأن مثل هذه التجربة تقضي بها نحو الاختزال والضمور والبقاء في مشهد ثقافي محدود الافق، ومثل هذا المسعى فاشل ومحكوم عليه بالتلاشي ، لان أية ثقافة من بين ما أنتجته الجماعات وصاغته، لا يمكن لها الرضا بالانكماش والاختزال ، لانها عبر ذلك ذاهبة للتعطل الحتمي .
ان المجتمعات في حالة التنوع والدفاع عنه كمثل دفاعها عن الذات ، إنما تقوم بواحدة من العمليات الخلاقة ، يحدث فيها نوع من التواصل والحوار الثقافي بين ثقافتين وأكثر ، تسعى كل واحدة منها الى التفاعل مع نظيراتها ، بهدف الأخذ منها وإعطائها في الوقت نفسه ، دون أن يترك ذلك أثرا سيئاً على الخصوصيات التي تتميز بها عن بعضها البعض / ن . م ص 53//
قال سقراط في " محاورة كرايت لوس " لأفلاطون ، أن غاية الكلمات تمييز الأشياء بعضها عن بعض ، وتلقين بعضنا بعضاً هذه الأشياء ، وتمييز الأشياء بعضها عن بعض يقصد به التمثل . أما تلقين احدنا الآخر هذه الأشياء فتعني التواصل / جون جوزيف / اللغة والهوية / ت : د. عبد النور خرافي / سلسلة عالم المعرفة / 49/2007 / ص 35//
يكشف لنا هذا الرأي مجالاً حيوياً في الفضاء الثقافي للجماعات الكبرى / الشعوب التي تتميز عن غيرها بوجود لغة خاصة بها تم توظيفها عبر تاريخ طويل جداً للتعبير عن عناصرها الوطنية وبالتالي توصيف هويتها ، لان اللغة هي الوسيلة الحية لكل شعب في انتاج حاضره ومستقبله ، والإبقاء على الماضي موروثاً ، خاضعاً للنقد العقلي . كما أكد الدرس الانثربولوجي على اللغة باعتبارها مجالاً حيوياً ووسيلة كبرى لرسم الملامح .
وتوصيف الخصائص المجتمعية وإضفاء الملامح المميزة لها . ويؤدي هذا المجال الجوهري - اللغة التي قال عنها هيغل هي مقياس حقيقي -  للتعرف على حيوية شعب من الشعوب . ووجود كلام مشترك يؤدي حتماً دور الرمز الفعال في تحقيق التضامن الاجتماعي بين الذين يتكلمون لغة واحدة كما قال جون جوزيف في كتابة اللغة والهوية ص 85//
تلعب اللغة الخاصة بشعب من الشعوب دوراً بارزاً ومركزياً من اجل توفير ( الأمن الثقافي ، الذي لا يقل أهمية عن الأمن السياسي والأمن الغذائي ، فهو ضروري لبقاء الأمة متماسكة في وجه محاولات الاختراق والاحتواء من الخارج ـ الأمن الثقافي له دور كبير في تحقيق الأمن الوطني ، والإسهام في مواجهة الصراعات الداخلية .والعنف المجتمعي/ ثابت الطاهر / التنمية الثقافية والتنمية الشاملة / مجلة المنتدى / سبق ذكره ص63//
تظل اللغة حاضرة بثقلها المتنوع ،الموزع على كل شيء في الحياة الخاصة بالجماعات ، واعني بها التفاعلات اليومية ، التبادل والتواصل ، الغناء ، الموروثات الشفاهية ، هذه معاً وغيرها كثير، احتفظت به الذاكرة الشعبية ولم تدونه إلا في فترات متأخرة ، عندما تحول التدوين نوعاً من أنواع الضبط الدقيق للذاكرة الموروثة ، وهذا ما انفتحت عليه الانثربولوجيا والاثنولوجيا والموروثات الشعبية ، بحيث تشكلت قواعد معلومات رصينة يستفاد منها لحظة الاحتياج لها ، لأعداد دراسة حول خطاب ما ، خاص بالجماعات الكبيرة ، وباستفادة من ادوارد سعيد عن الخطاب بوصفه مجموعة جوهرية من البيانات وقواعد المعلومات الرصينة . ومثل هذا الخطاب ، هو الذي يساعدنا في التعرف على العالم الخاص بالجماعة ، وهو دائماً ما يكون عالماً متسعاً وعميقاً . أما فكرة فوكو عن الخطاب فهي كساحة من المعرفة الاجتماعية محددة على نحو شديد من أن يشير الى الكلام بمعناه التقليدي . فالعالم عنده ليس موجود ببساطة للتحدث عنه ، بل هو بالأحرى خطاب يمكن للعالم أن يوجد بوساطته / بيل اشكر وفت / بال اهلواليا / ادوارد سعيد / ت : سهيل نجم / وراقون والرافدين / 2016/ص25//
لم ينتبه احد في الدراسات الثقافية الجديدة للاهمية التي يتمتع بها الخطاب الفوكوي والذي استفاد منه ادوارد سعيد في فهم العلاقة القائمة بين الخطاب والخطاب الكولونيالي الثقافي . وأكد فوكو على الخطاب مساحة من المعرفة الاجتماعية ، محددة على نحو شديد من دون أن يشير الى " الكلام " بمعناه التقليدي / نفس المصدر ص25//
العالم عند ميشيل فوكو غير موجود حتى يمكن التحدث عنه ، بل هو " خطاب يمكن للعالم أن يوجد بوساطته . وفي مثل هذا الخطاب يتوصل المتكلمون والمستمعون والكتاب والقراء الى فهم لأنفسهم وعلاقات بعضهم ببعض وموقعهم في العالم " بناء الذاتية " انه تلك العقدة من العلاقات والممارسات التي تنشئ الوجود الاجتماعي والنتاج الاجتماعي ، والتي تقرر كيف تتحدد شروط التجارب والهويات / نفس المصدر ص25//
نستطيع توظيف مفهوم الخطاب الفوكوي ونشير الى أن عالم الجماعات غير موجود ، حتى يمكن الحديث عنه ، بل نذهب باتجاه الخطاب المكون من قاعدة معلومات وافية عن الجماعة منها البيانات التي توصلت إليه الانثولوجيا ، فمن خلال ذلك يمكن الذهاب نحو عالم الجماعة والتعرف عليها ، لأنها توجد من خلال كل ما توصلت له الاثنولوجيا ، والتي هي كل المعلومات والثقافة الخاصة بها ، فهي التي تساعدنا للتعرف عليها أكثر .
الخطاب ، هو الذي يضيء لنا عالم الجماعة بكل مكونات هويتها ، أي هو الذي يرسم حدودا تفصيلية للذات الجمعية . وذهب بها فوكو الى ابعد ، حيث كشف قدرات كامنة فيه تساعد الجماعات التعرف الكامل على بعضهم البعض ، في حدود التبادل اليومي ، عبر الكلام والتدوين من خلال الكتابة ، بمعنى رسم الإطار للإرسال والاستلام واختار وجود الباث والمستلم المتلقي . لقد وظف ادوارد سعيد مفاهيم فوكو الخطابية واستفاد من فلسفة هايدجر في الكينونة والزمان مثلما هو واضح . لان اشارته الى تحديد موقع الجماعة في العالم يعني الذاتية والهوية التي اعتبرها جوهر الوجود الاجتماعي ، المكون من العلامات وكل ما يزاوله الفرد من ممارسات . وهي التي تنشئ الوجود الاجتماعي والنتاج الاجتماعي .
وهذا ما ذهب إليه هايدجر وقال بأن " العالم المحيط " الذي يفضي بنا نحو معلومة جوهرية عن كيفية التعامل وسط العالم / المحيط الاجتماعي وأيضا هي الكائن الموجود في المحيط .
وعودة مرة أخرى لنظرية العلامات / د. رسول محمد رسول / العلامة / الجسد / الاختلاف / دار مكتبة عدنان / بغداد 2015ص 38ـ39// ولج هايدجر حالات تستبطن بنية سيميائية خاصة بالمولودات سرعان ما ستتحول الى علامات دالة على معنى معين وهي تتجلى كتواجد في مجرى الكينونة أو الوجود ، خصوصاً أن كل الإشارات ، والأعراف ، والرموز ، إنما لها البنية الصورية للتمظهر ، مع أنها أيضا مختلفة فيما بينها .
هذا هو الموقف الهايدجري الأول ، لكنه تغير بعد تعرفه جيداً على هوسرل فانحرف مفهومه عن العلاقة كصورة الى اعتبارها عينية بمعنى العلاقة قائمة على الانكشاف والظهور المباشر ، أي تجلي الكائن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

الحصيري في ثلاثة أزمنة

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

تنويعات في الوضوح

مقالات ذات صلة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي
عام

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

خضير الزيدي مرت التجربة الفنية العربية بعدة متغيرات اسلوبية وطروحات فكرية ومنها (التجربة العراقية واللبنانية وبعض الدول العربية) وكانت مرحلة ستينيات القرن المنصرم الفترة الملفتة حسب اراء نقاد الفن ومنها انطلق الفن العربي مواكبا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram