أنا رجل من أهل الجنوب، ومن جنوبي الجنوب، كما يقول محمود درويش، وأعرف الابيض والاسود من حياة الناس هنا، ورأيت بأم عيني مناقبهم، ووقفت على مآثرهم مثلما رأيت ووقفت على الشائن من أفعال بعضهم، لكن الكلمة الحق لا بد ان تقال: لولا أهلي، من اهل الجنوب هذا، لولا أجسادهم ودماؤهم ولولا بسالة رجالهم لكان العراق غير العراق اليوم.
بعد دخول داعش الموصل وسقوط المدن في الغربية بنى أهل الجنوب من أجسادهم سوراً حول بغداد وأحاطوها باللحم والعظم والدم وما بين أيديهم من المعاول والبنادق الصدئة، وبصدور ليس سوى الايمان بالعراق ومقدساته عليها أوقفوا الوحش، أقولها وليقبل بها من يقبل وليغضب منها من شاء أن يغضب: لولا صرخة السيد السيستاني العظيمة، لكانت خريطة البلاد غير البلاد، وأرواح الناس غير الناس، ولكان حال بغداد حال الموصل الايام هذه، وما في قولي هذا مجاملة لأحد، ولا أملك بغية وموئلا عند أحد، لكنها الكلمة الحق، وإن شاب الفعل ما شابه من الخطل والخطأ، وتهافت على استحقاقه من لا حق له فيه، ومن يبحث في تاريخ الحروب يقع لا محالة على ما بين هذه وتلك.
خبيث، ومفارق للحق، مجانب لضميره وانسانيته من حصر الأفعال الشنيعة، التي ارتكبت بحق أهلنا في بعض المناطق المحررة، وتغافل عن حقيقة وأهمية التحرير، من قال بالاخطاء الصغيرة ولم يقل بالنتائج الكبيرة، أقول ذلك وفي نفسي كلمة وددت قولها: الاندفاع العظيم والطاعة المطلقة والانقياد الصدق والسماع الواعي لكلام المرجعية لدى هؤلاء الرجال كان باهرا وعظيما ويفوق التصور، ولكن، كان يمكننا استثماره بما هو أعظم وأكثر حكمة، ولجاء بنتائج باهرة، لصالح الخير واللحمة الوطنية لو أتيح الوقتُ للقائمين عليه، لو صيغ صياغة الحكماء العارفين، لو وجّهت الجموع التوجيه العاقل المدروس، المحسوب النتائج، ولكن، أنّى لهم ذلك، وداعش على ابواب بغداد والمدن الأخرى، وقد سدت بوحشيتها منافذ الزمن أجمعها؟
القول بإمكانية التأني واختيار الرجال بالغي الوعي، بكل شيء، محض خيال، والقول بعدم إمكانية وقوع الاخطاء سذاجة ما بعدها سذاجة، والنأي عن ردود الافعال عند المقاتلين امر لا يتصوره عاقل آنذاك، فحوادث مثل الصقلاوية وسبايكر وأبي غريب وديالى لم تكن لتسمح بمثل هذا التروي والتعقل، هي الحرب المجنونة التي لا تُعصبُ برُقية ولا تُستوقف برأي، وكان لضياع الموصل والمدن والضواحي الأخرى الاثر البالغ في محدودية لجم خيل المواجهة، وصعوبة خوض الحرب بأقل عدد من الأخطاء. وعلى العكس من ذلك، ها نحن نشهد انقلابا في معادلة معركة تحرير الموصل، فالجنود الجنوبيون أكثر حكمة وتعقلاً اليوم، وهم عارفون ماذا يفعلون، شعورهم بالمواطنة غالب على حسهم الطائفي، يقودون المعركة مقتدرين، غير خائفين من هزيمة، وها نحن نشهد معركة نظيفة، من طراز خاص. كان لعامل الوعي والحكمة والزمن الاهمية الكبرى في ذلك.
يقول جندي في الموصل: نحن نقتسم أرزاقنا مع أهلنا النازحين من قرى الموصل، وهم يعودون تباعاً، بعد تنظيف مدنهم وبيوتهم وشوارعهم من القنابل والمقذوفات.
التقرير الذي بثته الوكالات الذي تحدث عن أكرم شعوب أهل الارض(العراق) كان خصيصة اهل الجنوب، لأن اهلنا في الغربية والشمال لم تكن الظروف لتجري في صالحهم، فقد جاءهم ما يشغلهم، وهم الأعلون كرما وشهامة، وما يقوم به الناس من أهل الجنوب، في العاشوراء والاربعين من بذل في الطعام وطول في الموائد وتنوع في الاطعمة والاشربة فاق الوصف وتوقفت عنده العقول، ولا يقولن أحد منا شيئاً في التبذير والحُمق وضياع الأموال، إنما هي طباع في بني الانسان هنا، وخلق تخلق بها أبناء النخل والماء والشمس منذ قيامة الأرض الأولى. يقاتلون ويطعمون. يالهم من رجال جنوبيين.
يقاتلون ويُطعِمون
[post-views]
نشر في: 8 نوفمبر, 2016: 09:01 م
جميع التعليقات 1
فرات صالح
والله يا طالب وأنا أقرأ المقال لم أستطع حبس دموعي ربما لأني _وأنا العارف بك والعاشق لقولك_كنت أتمنى أن تكتب ما كتبتَ منذ زمن