1-6
من البطاقات البريدية التي احتفظت بها في طفولتي، تلك البطاقة التي ظهر عليها خمسة عشر عسكرياً بريطانياً، حملوا بنادقهم معهم، بعضهم وضعها على كتفه، فيما استند بعضهم عليها، لكنهم كلهم وقفوا في وضع استعداد، عند شريعة نهر دجلة في بغداد، ربما انتظروا مركباً أو قارباً يحملهم إلى الضفة الأخرى من النهر، أو ربما وقفوا فقط هناك على أهبة الاستعداد لما سيحدث بعد قليل بعد الانتهاء من التصوير. على أية حال وقفوا عند نقطة لابد وأنها كانت ستراتيجية بالنسبة لهم. قائدهم الذي ظهر في الخلف، وقف على مكان مرتفع يعاين المشهد أمامه، فيما وقف إلى يمينه مرافقه أو دليله. الصورة لا تحمل اسم المصور لكنها تحمل تاريخ 1941. احتفاظي بها بشكل مميز مع زميلاتها الأخريات يعني، بالإضافة إلى أهميتها بالنسبة لي، أنني حصلت عليها عام 1961 أو 1962. وأول ما أعجبني في الصورة هو، فضلاً عن الهدوء "الشاعري" الذي سيطر على المشهد، الهدوء الذي ستطرده كل الحروب "الواقعية" اللاحقة، الزي النظيف الذي لبسه الرجال الواقفون هناك. كأنهم لم يكونوا عسكريين بالنسبة لي، حتى البنادق التي صاحبتهم بدت في الصورة ثانوية، انزاحت خلف المشهد، فقط أشكالهم، وقفتهم النظامية، ملابسهم النظيفة، منظر النهر أمامهم، السماء، كل ذلك هو الذي احتل صدارة الصورة، حتى بدا لي بالفعل مشهداً استثنائياً، يثير الفضول، إن لم يثر الإعجاب. لم أعرف سبب السرعة التي ضرب فيها قلبي عندما رأيت ملابس الكشافة عندما استدعانا معلم الرياضة، يسألنا مَن يريد منا الانتساب إلى فريق الكشافة؟ ماذا يكون السبب إذن، إن لم يكن هو رؤيتي، أو إعجابي بالزي الذي لبسه الجنود في الصورة هو الذي جعلني أرفع يدي في ذلك الصباح وأقول بحماس: "أنا، أستاذ، أنا، أريد أن أكون في الكشافة".
لم أربط بين ملابسهم والبنادق التي صاحبتهم وبين المهمة العسكرية التي كانوا عليها، لم أفهم. أو لم أعرف أن العام ذلك، عام 1941، كان عاماً دامياً في بغداد وأن الجنود هؤلاء، هم جزء من الوحدات البريطانية التي قامت في 2 أيار/مايو 1941، بإنزال جوي أولاً في الميناء العراقي البصرة، ثم بإنزال جوي آخر في قاعدة جوية في منطقة الحبانية غرب العراق، قبل أن تواصل زحفها باتجاه العاصمة بغداد وتدخلها في 2 حزيران/يونيو 1941، لسحق الانقلاب العسكري الذي قام به الكولونيل رشيد عالي الكيلاني في 1 ابريل/نيسان 1941، بدعم من قوات ألمانيا النازية التي تمركزت آنذاك في سوريا المجاورة للعراق، المستعمرة السابقة لفرنسا والتي سقطت في يد ألمانيا الهتلرية أوتوماتيكياً مع سقوط باريس، أيضاً لم أعرف أن اليومين اللذين سبقا دخول القوات البريطانية لبغداد، أو عندما أصبحت القوات هذه على أبواب المدينة ترددت في دخولها أولاً، وأن الفراغ الذي تركه هروب الحكومة الانقلابية وتأخر عودة الوصي عبدالإله (خال الملك فيصل الثاني) شجع الغوغاء بارتكاب أعمال نهب وسطو وقتل استهدفت سكان العاصمة من اليهود في 1 حزيران/يونيو 1941، خلال احتفالهم بعيد الشفوعوت اليهودي، تلك الأحداث التي أُطلق عليها بالفرهود والتي انتهت بدخول القوات البريطانية في اليوم الثاني، لكن بعد أن راح ضحيتها نحو 175 قتيلاً و1000 جريح يهودي، كما تم تدمير نحو 900 منزل تابع لليهود، هذه الحادثة التي تركت أثراً عميقاً لدى اليهود العراقيين وساعدت على سرعة هجرة أكثر من 80% منهم إلى إسرائيل عام 1951، بداية النهاية للوجود اليهودي في العراق الذي امتد لأكثر من 2600 سنة منذ السبي الذي تعرضوا له على يد الملك البابلي نبوخذ نصر.
يتبع
العسكر البريطانيون وكشّافة بغداد
[post-views]
نشر في: 29 نوفمبر, 2016: 09:01 م