adnan.h@almadapaper.net
كان لجدّي (لأبي) المتوفى منذ نصف قرن، راديو كبير الحجم، أكثر ما يستمع إليه منه إذاعة لندن، وبالذات نشرات أخبارها الرئيسة.. في أواخر سنوات الابتدائية وأول سنوات المتوسطة تنبّهت إلى أنّ الإذاعة كثيراً ما كانت تُنهي نشرتها الإخبارية بنبأ عن موت عدد من الأفراد جوعاً في الهند.
كانتِ الأخبار من هذا النوع بالذات تُثير فيَّ العجب .. كيف يموت الناس جوعاً؟ لماذا يموتون جوعاً؟.. عندما كبرتُ أدركت سرّ الموت الهندي جوعاً .. وعندما كبرتُ أكثر صرتُ شاهداً على تحوّل الهند إلى مصدر لأخبار مختلفة تماماً .. الهند تغزو الفضاء الخارجي.. الهند تصنع القنبلة النووية .. الهند تحلّ نزاعاتها المسلّحة مع الصين وباكستان .. الهند تصنّع كلّ شيء تقريباً لنفسها ولغيرها، ونحن من هذا الغير.. الهند تتبوّأ المركز السابع بين أقوى دول العالم اقتصادياً من حيث الناتج المحلي الإجمالي، بحسب إحصائيات البنك الدولي للعام 2015... والهند صارت الآن قِبلةً عراقيّة رئيسة للتبضُّع والتطبُّب.
ما الذي يُذكّرني الآن بالهند وأخبار تلك الأيام عن الموت جوعاً فيها؟
ما يذكّرني هو هذا الجاري بيننا من جدال عقيم وثرثرة غير منتجة بشأن "التسوية التاريخيّة" .. هو جدال عقيم وثرثرة غير منتجة ،لأنه ليس مُنتظراً أن يكون الختام في صورة تختلف عن صورة الختام لعشرات من مشاريع المصالحة الوطنية التي طُرحت على مدى العقد المنصرم ولم تثمر غير الولائم الدسمة في الفنادق الفخمة، إنْ داخل البلاد أو خارجها.
السرّ الكامن وراء انتقال الهند من بلد الموت الجماعي جوعاً إلى قوة دولية كبرى اقتصادياً، ووراء ما تتمتع به من أمن وسلام واستقرار، هو النظام الديمقراطي الحقيقي، وليس المزيَّف الذي نعاني هنا من عواقبه الكارثيّة.
بعد استقلالها (1947) عانت الهند كثيراً من التعصّب الديني والعنف والإرهاب والتمردات المحلية ومن النزاعات المسلحة مع الجيران، وما كان مقدّراً أن تكون في منأى من ذلك بعد نحو قرن من الاحتلال البريطاني لها. لكنّ الهند، بعدد سكانها الزائد على مليار نسمة وبقومياتها البالغة نحو 30 ودياناتها ومذاهبها الزائد عددها على العشرين، قد تجاوزت ذلك كلّه وغدت من أكثر دول العالم تطوراً واستقراراً بفضل نظامها الديمقراطي الذي كان الأساس في إنشاء دولة المواطنة وليست دولة المحاصصة الطائفية والقومية التي تدمّرنا الآن وتعود بالعراق إلى عهود ما قبل الجاهلية.
لم تنشغل الهند وأحزابها في أيّ يوم من الأيام بمشروع تسوية تاريخية أو وثيقة مصالحة وطنية أو ميثاق شرف أو ما شابه ذلك مما يتدفّق علينا أكثر من المطر سنوياً من دون نفع أو فائدة، بل بخسارة ملايين الدولارات المُنفقة على الولائم المتّخذة صيغة اجتماعات ومؤتمرات ... لزوم التصوير!
الهند وضع لها المهاتما غاندي الحلّ السحريّ
، النظام الديمقراطي، الحقيقي وليس الكاذب، فعبرت من عصر الموت جوعاً يومياً إلى عصر التقدم والتحضر والسلم الأهلي الراسخ.
بدلاً من هذا المتكرر والمتواصل من الجدل العقيم والثرثرة غير المنتجة عن "التسوية التاريخية" التي لن تحصل و"المصالحة الوطنية" التي لن تتم، لماذا لا نمشي في أثر الهند؟
معلومة على الهامش: أعياد الهند الرسمية ثلاثة أيام فقط: يوم الإعلان عن النظام الجمهوري 26 كانون الثاني، يوم الاستقلال 15 آب، ويوم ميلاد المهاتما غاندي 2 تشرين الثاني.. فيما مجلس نوابنا يعمل الآن على جعل أيام عطلاتنا 75 يوماً في السنة، لنحوز بها لقب أكسل شعب في العالم!
جميع التعليقات 4
رمزي الحيدر
هل من المعقول و الممكن أن يكون واحد فاسد وحرامي و متخلف يحقق الى العراق التسوية التأريخية .؟؟!.
رمزي الحيدر
هل يوجد شعب في كل العالم يحترم نفسه ،يسمح لنفسه أن يأخذ 75 يوماً عطلة رسمية ؟؟؟!!..
أبو أثير
لقد أثبت السياسيون الذين أستلموا السلطة والحكم فشلهم في ادارة الدولة العراقية بعد عام 2003 .... وآن للنخب العراقية الشريفة بتصدر المشهد السياسي وما أفرزته انتخابات الشيوعيين تبشر بالخير بأختيار قيادة جديدة وتغيير الحرس القديم الذي تعاون مع المحتل والمعممي
ييلماز جاويد
أؤيّد 100% لكن النظام الديمقراطي يبنيه المؤمنون به ، فهل بين جماعتنا مًن يؤمن بالديمقراطية ؟