أواصل في هذا القسم - وأقسام أخرى ستأتي تباعاً - نشر أجزاء من الفصول الأولية للسيرة الذاتية الموجزة التي كتبها الفيزيائي النظري وعالم الكونيات الأشهر ( ستيفن هوكنغ ) ونشرتها دار نشر بانتام Bantam عام 2013 بعنوان ( موجز تأريخ حياتي My Brief His
أواصل في هذا القسم - وأقسام أخرى ستأتي تباعاً - نشر أجزاء من الفصول الأولية للسيرة الذاتية الموجزة التي كتبها الفيزيائي النظري وعالم الكونيات الأشهر ( ستيفن هوكنغ ) ونشرتها دار نشر بانتام Bantam عام 2013 بعنوان ( موجز تأريخ حياتي My Brief History ) .
المترجمة
الانفجار العظيم The Big Bang
كان السؤال الأساسي الأكثر جوهرية في علم الكوسمولوجيا خلال حقبة الستينات ( من القرن العشرين ) يختصّ بموضوعة : هل للكون بدايةُ ما ؟ اتخذ العديد من العلماء - مدفوعين على نحو غريزي - موقفاً مناهضاً لفكرة وجود بدايةٍ ما للكون ، وانسحب بالتالي موقفهم المناهض هذا على نظرية الانفجار العظيم ذاتها وذلك بدفعٍ من اعتقادهم أن الإيمان بخلق الكون في زمنٍ ما سيوفر حجّة تعمل على تقويض العلم ؛ إذ ربما سيجنح الكثيرون حينئذ نحو المواضعات الدينية القائلة بأنّ ( يد الله ) هي من خلقت الكون من العدم .
كان ثمة سيناريوهان بديلان ( عن الإنفجار العظيم ) ولم يكن بدٌّ من القبول بأحدهما : الأول هو نظرية الحالة المستقرة Steady - State Theory التي ترى أنّ الكون دائم التوسّع وأنّ مادة جديدة يتمّ تخليقها باستمرار وذلك للحفاظ على ثبات متوسط كثافة المادة الكونية . لم تمتلك نظرية الحالة المستقرة أساساً نظرياً راسخاً وذلك لاحتياجها إلى حقل طاقة سالب بغية تخليق المادة على نحو مستمر ؛ الأمر الذي سيقود في نهاية المطاف إلى حالة من اللااستقرارية والتخليق اللانهائي للمادة والطاقة السلبية ، ولكن من جهة أخرى كانت ثمة حسنة فريدة لنظرية الحالة المستقرة وهي أن تخميناتها بشأن الكون كانت تتوافق على نحو جيد مع النتائج التجريبية المستحصلة من الأرصاد الكونية .
مع عام 1963 وجدت نظرية الحالة المستقرة نفسها في ورطة جدية : رصد فريق ( مارتن رايل ) البحثي الخاص بالفلك الراديوي والتابع لمختبر كافندش ( العائد لجامعة كامبردج ، المترجمة ) وجود مصادر راديوية ضعيفة متوزّعة على نحو منتظم في السماء ، وقد أشار هذا الأمر على نحو بيّن أن هذه المصادر آتية من خارج مجرتنا ، لكن الرسم البياني لعدد المصادر الراديوية المرصودة في مقابل قوة تلك المصادر لم يكن يتوافق مع تخمينات نظرية الحالة المستقرة ؛ إذ كان ثمة الكثير من المصادر بحيث لايمكن للمرء إلا أن يُدفَعَ دفعاً للاستنتاج بأن كثافة هذه المصادر كانت أعظم في الماضي السحيق .
حاول هويل Hoyle ومناصروه تقديم توضيحات تعمل على تدعيم موقف نظرية الحالة المستقرة إزاء البيانات المرصودة ؛ غير أن المسمار الأخير القاتل الذي غُرِز في نعش تلك النظرية كان بسبب الاكتشاف الهائل الذي حصل عام 1965 لِما بات يُعرَفُ ( إشعاع الخلفية الكونية المايكروي الضعيف ( - ذلك الإشعاع الذي تلتقطه الأرصاد الكونية والشبيه بالموجات المايكروية المنبعثة من فرن التسخين microwave oven ولكن بدرجة حرارة لاتتجاوز 2.7 كلفن وهي أعلى بقليل وحسب من درجة الصفر المطلق . لم يكن بوسع نظرية الحالة المستقرة تقديم تفسير مقبول لإشعاع الخلفية الكونية المايكروي الضعيف على الرغم من المحاولات العظيمة - لكن اليائسة في نهاية المطاف - التي بذلها كل من هويل ونارليكار ، ومن جانبي وجدت أن الحظ وقف معي عندما لم أقبَل طالب دراسات عليا تحت إشراف هويل ؛ إذ لو حصل الأمر لكنت حتماً من المدافعين اليائسين عن نظرية الحالة المستقرة !! .
استوجب اكتشاف إشعاع الخلفية الكونية المايكروي التفكير بأن الكون امتلك في أحد أطوار نشوئه السابقة طوراً عظيم السخونة والكثافة ، ولكن ذلك الإشعاع لم يحسم القول بأن ذلك الطور كان هو بذاته بداية الكون ؛ إذ يمكن للمرء مثلاً أن يتخيل بأن الكون كان في طور انكماش سابق ثم انقلب الانكماش تمدّداً بكثافة كونية عالية ولكن ثابتة في الوقت ذاته . كان هذا الأمر هو السؤال الجوهري السائد آنذاك في الكوسمولوجيا ، وكان أمر التحقق منه هو ماكنت أبحث عنه لإتمام متطلبات نيل شهادة الدكتوراه .
من المعلوم أن الجاذبية تعمل على لمّ المادة في حين يعمل الدوران على بعثرتها ؛ لذا كان سؤالي الأول والأساسي هو : هل يمكن لدوران الكون حول نفسه أن يتسبّب في تأرجحه بين حالتي الإنكماش والتمدد ؟ كان جوابي الذي توصّلت إليه بالاشتراك مع (جورج إيليس ) هو أن هذا الامر لايمكن أن يحصل إذا ماكان الكون يمتلك صفة التجانس الفضائي - أي إذا كان متماثلاً في كل نقطة من الفضاء ، ولكن على كل حال ادعى اثنان من العلماء الروس : إيفغيني ليفشيتز و إيزاك كالاتنيكوف أنهما توصّلا للبرهنة على أن الانكماش الشامل للكون مع عدم الحفاظ على تجانسه التام سيقود دوماً إلى تأرجحه بين انكماش وتمدد مع بقاء كثافته ثابتة . جاءت نظرية العالمين الروسيين متوافقة مع رؤى المادية الجدلية الماركسية - اللينينية لأنها تجاوزت التساؤلات الحساسة بشأن خلق الكون ؛ إذ من الواضح أن الأمر بات مسألة اعتقاد أكثر من كونه مسألة نظرية علمية بالنسبة للعلماء السوفييت.
كان ليفشيتز وكالاتنيكوف يتبعان المدرسة القديمة في النسبية العامة - تلك المدرسة التي يستأنس أعضاؤها بكتابة منظومة طويلة من المعادلات المعقدة ثم يمضون في تخمين حل مناسب لها ، ولكن لم يكن واضحاً فيما لو كان الحل الذي توصّلا إليه يمتلك عمومية كافية تؤهله ليكون حلاً مقبولاً . من جهة أخرى استخدم ( روجر بنروز ) مقاربة جديدة لم تكن تتطلّب حلّ معادلات المجال لآينشتاين بصورة صريحة ، وقدّم بنروز حلقة دراسية ( سمنار seminar ) بشأن مقاربته هذه في كلية الملك - لندن في شهر كانون ثاني 1965 ، ومن جانبي لم أحضر تلك الحلقة الدراسية غير أنني سمعت بشأنها عن طريق زميلي ( براندون كارتر ) الذي كان يشاركني مكتبه بقسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية DAMTP المؤسس حديثاّ بجامعة كامبردج .
لم يكن بوسعي في البدء تفهم الأمر بشأن ماكان يقصده بنروز في مقاربته تلك : أوضح بنروز أن أي نجم متلاشٍ متى ماتقلّص وبلغ نصف قطر محدد فستنشأ حتماً نقطة انفرادية Singularity - حيّز يختفي فيه الزمان والمكان ، ولطالما اعتقدت من جانبي أن لاشيء يمكنه منع انهيار نجم بارد هائل الكتلة تحت تأثير جاذبيته الخاصة إلى الحد الذي يبلغ فيه انفرادية ذات كثافة لانهائية ، ولكن معادلات المجال لآينشتاين كانت قد حُلّت لحالة انهيار نجم كروي بالكامل Perfectly Spherical وحسب ، وبالطبع فإن النجوم السائدة في الكون ليست كروية بالكامل، وهنا يمكن القول أن ليفشيتز و كالاتينكوف لو كانا على صواب فإن الاستمرار في الابتعاد عن التماثل الكروي للنجم سيتزايد كلّما انهار النجم على نفسه أكثر فأكثر ؛ الأمر الذي سيباعِد أجزاءه عن بعضها ويلغي إمكانية نشوء انفرادية ذات كثافة لانهائية . إن الأمر الجوهري الذي أبان عنه بنروز في حلقته الدراسية تلك هو أن العالميْن السوفييتيين كانا على خطأ : الابتعاد عن حالة التماثل النجمي الكروي لن يلغي إمكانية تشكّل انفرادية لانهائية الكثافة .
أدركت أن حججاً مماثلة لما سبق يمكن أن تقدّم بشأن توسّع الكون ، وفي هذه الحالة ساكون قادراً على برهنة وجود انفراديات يمتلك فيها هيكل الزمان - المكان بداية ، وهنا سيكون ليفشيتز و كالاتنيكوف على خطأ أيضاً . تنبّأت نظرية النسبية العامة بأن الكون يمتلك بداية ، ومن الطبيعي أن هذا التنبؤ لم تغفله الكنيسة وعملت على توظيفه لصالحها بقدر ماتستطيع!! .
في السنوات الخمس اللاحقة طوّر كلّ من ( روجر بنروز ، بوب غيروغ ) وأنا معهم نظرية الهيكل السببي في النسبية العامة ، وأراه شعوراً غامراً بالدهشة يعتريني كلما خطر ببالي أننا نحن الثلاثة من تولّى مسؤولية تطوير حقل علمي كامل لوحدنا تقريباً ، وهو أمر يختلف تماماً عمّا حصل في حقل الجسيمات الأولية حيث يتدافع الباحثون بالمناكب ويتساقطون فوق بعضهم في محاولة اللحاق بآخر التطورات العلمية في ميدانهم ، ومازالوا يفعلون !! .
أجملتُ بعض التطورات الأخيرة في مقالة علمية فازت بجائزة آدامز بجامعة كامبردج عام 1966 ، واستخدمتُ هذه المقالة كأساس في كتابة كتابي الأول ( هيكل الزمان - المكان على المقياس الكبير The Large Scale Structure of Space-Time ) الذي ألفته بالاشتراك مع ( جورج إيليس ) وصدر عن مطبعة جامعة كامبردج عام 1973 ، ولايزال الكتاب يُطبَعُ حتى يومنا هذا لأنه يُعَدُّ الكلمة الأخيرة فيما كُتِب بشأن نظرية الهيكل السببي للزمان - المكان : أي محاولة الإجابة عن التساؤل بشأن أي قطب في هيكل الزمان - المكان يمكن أن يؤثر في سير حوادث تقع في نقاط أخرى من الهيكل ، وهنا ينبغي لي تحذير القارئ غير المتخصص من محاولة الاستفادة من هذا الكتاب بالتحديد لأنه كتاب هائل التعقيد من الناحية التقنية الرياضياتية ؛ فقد كتبته في وقت كنت أسعى فيه لتثبيت موطئ قدمي كرياضياتي لايقبل أن يتنازل عن الصرامة المعهودة في لغة المتخصصين في حقل الرياضيات الصرفة ، بينما أجدني اليوم ميالاً أكثر لأن أكون صائباً في آرائي عوض التركيز على صرامة الصياغات الرياضياتية ، وفي كل الأحوال لم يعُد ممكناً اليوم - بل أنه أمر مستحيل التحقق تقريباً - أن يكون الفيزيائي صارماً كما كان من قبل وبخاصة في حقل الفيزياء الكمية التي تأسست على خلفية رياضياتية رجراجة لاتماثل صرامة الرياضيات التي تأسست عليها حقول فيزيائية أخرى.