في الليل، حين كنتُ أتحرّق لرؤيتك، قلتَ لي: حدْثني عن رحلتك الى بيروت، وما انا بمحدث احداً عنها من قبل، لكنك رحت تلحف بالسؤال، كلما رأيت صورة لي فيها، لا، لن أحدثك عن ليل بيروت الطويل، وساترك بحرها بموجه وأصدافه وحشد الصيادين الواقفين مع حبيباتهم على ساحله، لن اهبط سلالم غبطتي، أنا المتعجل، المحمول على قدميَّ الى معرض الكتاب في (البيال) فهذا مما لا تصدقه، انت القابع في زاويتك، بين المآتم واليافطات السود، ساكتفي بالحديث عن الكتاب الذي نكأت أرففُه وأكشاكُه جرحا قديماً، غائراً في الروح، حديث ينسحب الى المفاضلة والمقاربة بين ما تعيشه بيروت المدينة البحرية الجميلة، وبين ما تعاني منه بغداد والمدن العراقية الأخرى.
وهل أتيتَ حانةً على البحر تقول: بَلا، وهل لمثلي ان يظل حبيس غرفته بالفندق، نعم، أتيتُ اكثرَ من حانة ومرقص ليلي، ورأيت بأم عيني، كيف يسقط الضوء على شعر واكتاف النساء الجميلات، وكيف يحمل النادل قفطان هذه وحقيبة تلك، الى حيث المشجب عند الباب، رأيته وهو ياخذ مظلاتهن وقبعاتهن الى ركن في المرقص، قرب المدفأة، حيث انهمر المطر غزيرا ذات ليلة، رأيتهن وهنَّ يحيينه بابتساماتهنَّ العريضات، شاكرات صنيعه، ورأيت المراة، سيدة المنزل، الزوجة والحبيبة والخليلة وهي تطوي ذراعها تحت إبط زوجها، حبيبها، خليلها، رأيتهم وهم يعبرون الناس والمقاعد الى الطاولة التي تم حجزها لهم. رأيت النادل وهو ينحني رقة وأدباً، ليسكب في كؤوسهم ما شاؤوا من النبيذ والجعة وعصير البرتقال. ورأيت الليل وهو يستعجلهم الى الفجر غناءً وسُكراً وبهجات.
وفي مطعم الأوتار، تراجعتُ خجلاً وهلعاً، ووجدتني في موضع العاجز الضعيف، ساعة تركت الراقصة عصاها في يدي، كانت تريدني راقصاً معها، هكذا مثلما يفعل عراقيو المال السياسي هنا، الذين ياتون الحانات برهط حماياتهم ، ويأمرون المرتادين بعدم التصوير، رأيتهم صُلعانَ وصُلْعاً صُلعاءَ، يلمعون تحت الأضوية الملونة، وقد تركوا ثياب الكهنوت والقبيلة في الشقق المفروشة حيث يقيمون، وحيث يستقدمون العاهرات الروسيات من جونية والضواحي البعيدة. هناك، حيث تجتمع المحاسن والأضداد، وحيث لا يفاخر احدهم بين بيروت وبغداد، رأيتهم، وسمعت من سائقي المركبات ما يشيب الرأس منه، وما ليس في خلد احدٍ من أبناء شعبي، الذين انتخبوهم شيئاً عنه.
هل أثقلتُ عليك بحديث الليل، ربما، لكن، لا عليك، احملني على واحد من محاسن ظنونك بي، لأنني ساحدثك عن غابة الارز في الشوف، محميّة الباروك، حيث يفتخر اللبنانيون بانها واحدة من معالم البلد الجميل هذا، نعم، والله لقد قال مرشد الرحلة الحق، حين أسهب في ذكر جمال الشجرة وأهميتها وقيمتها المعنوية ، فشجرة الأرز علامة لبنان الفارقة، وحمايتها واجب وطني، ومع ان الثلج كان قد انهمر في الليل، إلا انه ظل ماثلاً والشمس، ساكناً والبرد، الذي تطاول على اكفنا وأقدامنا، ونحن نعبر الغابة الى أقدم شجرة أرز فيها، قال بان عمرها تجاوز الألف بأربعمئة سنة.
كان فخوراً بأن دائرة السياحة والمؤسسات الحكومية أفلحت أخيراً بحماية الغابة والمخلوقات الأخرى التي تسكنها، وراح يحدثنا عن السناجب التي تخرج في الليل لتأكل ثمار الأرز، الثمار التي إنْ سقطت أخذها السنجاب الى حجره، طعاما له، لكنَّ الثلج يتعجلها فيغطيها، كلُّ ثمرة يفقدها تحت الثلج ستصبح شجرة فيما بعد. يقول مرشدنا بأن الأرز كان يغطي ما مجموعة 75% من مساحة لبنان، لكنه الآن لا يغطي سوى 25% منها!!!! . لا ثمر يأكل في شجرة الأرز، هي شجرة تمسك التربة وتغطي سفوح الجبال تمنعها من الانجراف حسب. هل أقول بانَّ العراق اجمعه كان مغطى بالنخل، وهو مثمر وقوت ويقف سداً بوجه الصحراء ويمنع ردم الأنهار. لم تكن الحكومة اللبنانية بعيدة عن شبهات الفساد، أبداً فالناس يتذمرون من أداء حكامهم بكل تأكيد، لكن اللبناني على اختلاف معتقده، يحمل بلاده في قلبه ، هل حملنا العراق نحن، هل حملناه؟؟
لبنان، معرض للكتاب وغابة أرز
[post-views]
نشر في: 6 ديسمبر, 2016: 09:01 م