"جزء ثان"
أمضينا ليلتنا، حمودي وأنا، بأحلام مختلطة مما يحدث في اليقظة والنوم معاً، على أنها، كلها، تختصر في حلم واحد: بلوغ دمشق. وهنا أدركت كم تصبح الأحلام الصغيرة أحلاماً كبرى، شبه مستحيلة، كلما استحكمت الأسوار بأرواح البشر اللائبة.
كانت جموع المهجرين العراقيين، منذ اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في عام 1980، غطاءً سميكاً لتحركنا اليومي، صاحبي وأنا، في سوق "كوچه مروي" الشعبي، عاصمة هؤلاء المهجرين، داخل العاصمة الإيرانية، حيث شعب صغير يتكون من الجميع، مثل أي شعب آخر: المناضلين والتجار (بالبضائع والأحزاب) ورجال المخابرات والعاطلين عن العمل والكسبة والجنود الهاربين وصغار الحالمين وكبارهم، وشخصياً، رغم أنني أحببت هذه ال "الكوچة" وتعني بالعربية "زقاق" إلا أنني كنت محترساً من مكان ملتبس، يقوم على تضاد الرغبات والنزوع الأناني للبشر في لحظة اضطراب حربي وشعور بالغبن وسط أجواء البلدين المتحاربين، لكن هذه السوق الشعبية، باختصار، مكان سيئ السمعة، كما كتبته في قصيدتي التي حملت اسمه عنواناً:
[..."مروي" امرأةٌ سيئة السمعةِ/ مقهى للحكايات الطريفةْ/قامةٌ مكسورةٌ "مروي" وطفلٌ نائمٌ قرب قذيفةْ/لم تكن "مروي" سوى عاصمةٍ أخرى لكفّارِ العجمْ/وكأنْ لم تبقَ أرضٌ غيرُ "مروي"/ربما نعطي القلوبَ الصدئةْ/فرصةً أخرى بمحرابِ امرإةْ/ربما ليس سوى "مروي" امرأة"/وسنبقى حالمينْ"]-طهران 15 تشرين أول 1983.
***
تناولنا إفطارنا في "كوچه مروي" بطبق عراقي شهير: "باقلاء ودهن وبيض" أعقبه شاي "سنكين". كان ذلك باقتراح من صاحبي.
قصدنا سفارة اليمن الديمقراطي ونحن نخبئ "كلمة السر" تحت الجلد. مثلما توقعنا، كان استقبال الرفيق السفير اليمني، احتفالياً، بل مدوٍّ!لم يمض وقت طويل حتى كانت وثيقتا سفرنا تحملان "الڤيزا" السورية العزيزة.
ركضنا عائدين نحو مركز المدينة لنحجز تذكرتي السفر. عرفنا أن هناك مكتباً للحجز يديره عراقي، أو إيراني مستعرق، ففضلناه على غيره، لتجنب مشكلة اللغة، وهكذا بلغنا المكان.
بعد لحظات من دخولنا حدث ما لم يكن بالحسبان، بل ما لم يكن حتى بالأفلام:عشرات من رجال الحرس الثوري الإيراني المسلحين بالبنادق الرشاشة يطوقون المكان، ويحتلون المكتب.
وسط ذعر الحاضرين، موظفين ومسافرين، اقتادونا إلى خارج المكتب. إلى حافلات (مرسيدس 18 راكباً) انطلقت بنا إلى اللاندري!
لا أعرف كم مر من الوقت، لكنه أكثر من ساعة، حتى بلغنا مدينة إيرانية يميزها ذلك السجن الكبير. هل كان مثل "أبي غريب"؟ لا أدري، لأنني لم أر بقية أقسامه وزنازينه وخطوطاً حفرها سجناؤه على جدرانه الغليظة بأكثر من لغة، كما رأيت على جدران زنزانتي.
نعم، وضعوا كلاً منا في زنزانة، اكتشفت أننا لم نكن كثيرين: كنّا حوالي خمسة عشر مسافراً، بعد أن كان العدد أكثر من هذا بقليل. لم يجبنا أحد عندما سألنا: ما تهمتنا؟.
الصمت كان جداراً غليظاً آخر. حتى أصبحت الزنزانة مكعباً بسبعة جدران غلاظ. بعد حوالي ساعتين من الحجز جاء من يقترح علينا أن يمكن لمن يحتاج المراحيض أن يخرج. هنا عرفت أن المراحيض فرصة لنزهة سعيدة حتى وإن لم يحتج المعتقل إلى مراحيض. نزهة سعيدة وإن استغرقت دقائق معدودة من تاريخ السجون المديد.
التقينا، أنا وصاحبي، من جديد أثناء تلك النزهة.
أخبرني بفخر: هل تعرف؟ كنت أغني في الزنزانة نشيدنا الأممي: "السجن ليس لنا نحن الأباة". فضحكت من براءته الطفولية وطيبة سريرته في مثل هذه الساعات الغامضة.
أخبرني أيضاً: ثمة قرآن في زنزانته. حسدته كثيراً. فثمة كتاب. وكل كتاب باب، وكتاب في زنزانة يفتح فيها أكثر من باب.
قلت لصاحبي: الصباح رباح.
ليلة طهران
[post-views]
نشر في: 12 ديسمبر, 2016: 09:01 م