3-6
في المراحل الأولى من دخول الجيش البريطاني إلى العراق، اعتاد الناس مع الوقت عليهم، بل راحوا يقلدونهم حتى شاع ولفترة طويلة لبس البنطلون القصير، على الأقل بين أفراد الطبقة العليا في بغداد، كما شاع في فرق الكشافة، وهذا ما جعل وجودهم يبدو لي وبالزي الذي لبسوه، بديهية وروتينا. لم أفكر في حينه، أنهم ربما كانوا انتهوا من مهمة عسكرية للتو، كأن تكون تلك هي لحظة سقوط بغداد في يد الإنكليز مجدداً، كلا، كل ما شغلني هو لون الملابس الكاكية تلك، دون أن تخطر في ذهني أية علاقة لها بالعسكرية كسلوك، كمفهوم، فحتى ذلك الوقت، لم يدخل التلفزيون بيتنا بعد، لأرى ماذا يفعل العسكر في مناطق مختلفة من العالم. ثم أنني لم أر في الواقع جنوداً بهذا المنظر. الجنود العراقيون من أبناء المدينة اختلف منظرهم عن هؤلاء، ملابسهم لم تكن أنيقة، مهلهلة، ملبوسة بدون عناية، وإذا رأيت أحدهم صدفة في السوق أو في الشارع، تجده دائماً يسير على عجل، وجهه حزين. أتذكر جاراً في شارعنا، خدم في دائرة التجنيد في مركز المدينة، وكان كل يوم وبعد نهاية الدوام الرسمي يمر في الشارع مسرعاً، لا يرفع عينيه عن الأرض، كأنه خجل من ملابسه، لا يصدق أنه سيصل إلى البيت، لكي ينزع الملابس العسكرية ويلبس ملابسه المدنية. على عكس هؤلاء الجنود البريطانيين، الذين بدوا لي مختلفين في كل شيء: منظرهم وهم يقفون على مرتفع عند النهر، القبعات التي غطت رؤوسهم، أكمام القمصان التي طووها ورفعوها إلى الأعلى، ومنظر النهر العريض، نهر دجلة الذي انسابت مياهه أمامهم بهدوء كل ذلك جعلهم يبدون لي كما لو أنهم في نزهة، بل أكثر، كأنهم ذاهبون في رحلة استكشافية، خاصة مع منظر التلسكوب الذي تخيلته بيد رئيسهم الذي وقف في مكان أعلى من البقية، ليس من الغريب إذن، أنني لم أتردد طويلاً بالانتساب إلى فرقة الكشافة المدرسية في أول مناسبة قادمة، البنطلون القصير الذي يشبه بنطلون الجيش الإنكليزي، والقميص الكاكي النظيف والشفقة أو السدارة، والمنديل الملون الذي سيُعقد بعناية عند الرقبة، أغروني مباشرة بالدخول إلى فرقة الكشافة، كأنني أردت تقليد الجنود الإنكليز الذين وقفوا على نهر دجلة في البطاقة البريدية. أليست كل انتماءاتنا في فترة الطفولة، تبدأ عاطفية؟ نريد تقليد الكبار، دون التفكير بمضمون ما نراه. دون التفكير بتبعات الفعل. العاطفة الغريزية هذه بالذات هي ما يدمغ تجربتنا اللاحقة وتجعلنا نتصرف بهذا الشكل أو غيره، سعيد الحظ هو من لا يضطر للندم لاحقاً، عندما يكبر ويكتشف أن ما ارتكبه في الحقيقة هو شر وحماقات، ليس إلا!
أبي وجد في انتمائي للكشافة أمراً إيجابياً، أخبرني، كيف أنه ما رغب بذلك في طفولته أيضاً. لكن حينها في سنواته الأولى في المدرسة، لم يكن دخول فرقة الكشافة بالأمر السهل. كان الأمر مقصوراً على أبناء النخبة فقط، لدرجة أن تأسيس الكشافة كان محصوراً على مدارس بغداد، وكان أغلب أفرادها ليسوا من الطبقات الراقية من المجتمع البغدادي وحسب، بل كانوا في المقام الأول، أبناء العائلة المالكة، ثم أبناء الوزارء ووكلاء الوزارات. دخولي للكشافة لم يذكره بشغفه فقط، بل أراه كيف أن الأزمان تغيرت. ولكي يثبت لي ذلك، جلب لي في إحدى سفراته مجلة قديمة، مجلة الكشاف العراقي، التي عثر عليها مثلما عثر على البطاقات الأخرى في مكتبة الفضلي في سوق السراي. المجلة هذه صدرت أولاً في 15حزيران عام 1924، وكان صاحبها محمود نديم، أحد رواد الحركة الكشفية والمشرف عليها في ذلك الحين في العراق.
يتبع
العسكر البريطانيون وكشّافة بغداد
[post-views]
نشر في: 13 ديسمبر, 2016: 09:01 م