ذات مرة، وَقَفَتْ امرأة بجانبي في أحد المتاحف وأنا اتطلع الى (عمل فني) مطروح على الأرض. كان العمل عبارة عن مجموعة من الأحجار التي ترصف بها الطرق وقطع أخشاب متآكلة وحبل ممدود بينهما بدون اي اهتمام أو تنظيم، وبينما أنا غارق في تفكيري حول ما وصل اليه الفن من انحطاطٍ وضعةٍ، سمعت المرأة تتحدث وكأنها تفتعل الثقة بنفسها وتقول بصوت مسموع (جميل.... كم هو مؤثر!)، فإلتَفَتُّ نحوها قائلاً، هل لك ان تخبريني ياسيدتي لماذا هذا العمل جميل ومؤثر بالنسبة لك؟ فَنَظَرَتْ اليَّ ثم تَراجَعَتْ قليلاً وهي تتفحصني، وقبل ان تنطق بأي حرف، قلت لها بصوت خافت وانا أشير بكلتا يديَّ المفتوحتين بطريقة مسرحية نحو العمل المطروح بلا مبالاة على الأرض (انها نفايات ياسيدتي، هذا لاشيء، انه ليس فناً لا من قريب ولا من بعيد، انهم يستغفلون الناس بهذه الازبال، فهم يجمعون الحجارة من الطريق ويريدوننا ان نصدق ان هذا فن).
مرَّ هذا الحادث في ذهني وانا ارى عملاً فنياً معروضاً في آرت ابو ظبي، وهو لفنان صيني، والعمل عبارة عن آلاف الكيلوغرامات من الموز المرمي على ارضية صالة العرض الواسعة، لاشيء هناك سوى الموز، وفوق ذلك بإمكان الزائرين ان يمدوا أيديهم لتناول أية موزة تعجبهم في هذا العرض، فالموز كثير والخير وفير كما يقولون، ومهما نقص عدد الموز او ازداد فهو لا يؤثر على (العمل الفني). وهنا لا احد يعرف من الذي سيفسد الآخر، الموز ام العرض، وبالفعل لقد فسد الموز قبل انتهاء المعرض وانتهى به المطاف كعلف في حديقة الحيوانات، كما صرحت إدارة المعرض.
بهذه الطريقة، فإن كل فنان كاذب وغير موهوب بامكانه ان يسوق أعماله، وهذا يحدث في كل العالم تقريباً، ويقف وراء ذلك سماسرة محتالون، يجمعون النقود الزائدة هنا وهناك، في هذا البلد وتلك المدينة، وأغلب زائري المعارض لا يستطيعون الاعتراض او التعبير عن رأي مخالف لما يشاهدونه من انحطاط، لأن الاعمال التي يرونها تعرض في أماكن رسمية. والحقيقة ان هذه الاعمال غير فنية وهذه الأماكن غير رسمية، فهؤلاء فيروس يدخل الى جسد المتاحف وبعض قاعات العرض للحصول على المال فقط، وحين يعترض البعض حول قيمة الاعمال التي يقدمونها، يتهمونهم بالرجعية وعدم الفهم والتخلف، وهذا هو رمادهم الذي يذروه في عيون المعترضين وهذه هي وسيلتهم التي يريدون من خلالها الدخول مجانا الى تاريخ الفن.
سوف لن اتحدث هنا عن العظيم ريمبرانت او لوحته "الحراسة الليلية"، التي تعد اعظم لوحة كلاسيكية على مر العصور، لكني سأضع أمامكم مثالاً اصغر من ذلك بكثير، لكنه مضيء مثل شمعة في اقبية تاريخ الفن، انها لوحات موديلياني، وخطوطه البسيطة ونسائه الحالمات والمسترخيات بسحر لا يقاوم، أشكال ذات حضور آسر تعكس جمال الرسام وجمال الموديلات. لقد حرَّفَ الأشكال وأطال الرقاب لتستدير الوجوه ساهمة وشاردة الذهن، كل ذلك داخل خطوط منسابة بنعومة ودراية. خطوط ومساحات رسمتها يد مليئة بالحساسية وتقودها موهبة فذة. فهل باستطاعتنا ان نقارن كل هذا السحر مع (فنان) يضع فضلاته في علب ويعرضها لنا بأعتبارها اعمالاً فنية؟ ألم يكن الفن جميلاً ونادراً وممتعاً، فلماذا نحفر قبره بايدينا ونحن باستطاعتنا ان نحييه؟ التعقيد يأتي عادة مع قلة الموهبة، والتعلّق بأشياء وتفاصيل غير فنية لا ينتج اعمالاً فنية ابداً. كيف اصبح الفن بأيدي هؤلاء السماسرة الذين يجمعون النفايات ويريدوننا ان نصدق بأن هذا فناً.
لقد دخل كاندينسكي ذات مرة الى مرسمه فوجد إحدى لوحاته وقد نسيَها مقلوبة على المسند فشعر بأن اللوحة يمكن ان تكون جميلة بدون موضوع محدد او دون ان تحاكي الطبيعة، ومن خلال هذه الحادثة اكتشف التجريد. كاندينسكي قلب واحدة من لوحاته واكتشف التجريد، لكنهم الآن قلبوا الدنيا فوق رؤوسنا عنوة وبكل وقاحة من اجل المال والأرباح والفن المفاهيمي الذي لم ولن يفهموه أبداً.
أين ذهبت بهجة الفن؟
[post-views]
نشر في: 16 ديسمبر, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...