الجيل القديم من البغداديين احتفظ بذكريات عن الطبيب اليهودي الراحل المختص بمعالجة الأمراض النفسية والعقلية جاكي عبود . فحين يفقد شخص ما صوابه ويرتكب حماقات ، يبادر احدهم بتوجيه نصيحة الى ذوي صاحب الحماقة بضرورة عرضه على الطبيب عبود لخبرته الواسعة في تشخيص الداء واعطاء الدواء . لكن النصيحة عادة ما تكون ثقيلة لاعتقاد الكثيرين بأن زيارة عيادة الطبيب الكائنة حينذاك في ساحة حافظ القاضي ، تعد اساءة لسمعة العائلة ، واطلاق مفردة مجنون على الشخص المريض .
في أربعينات وخمسينات القرن الماضي ، كان دخول احد وزراء الحكومة الى عيادة جاكي عبود يمنح الجريدة اليومية خبرا يتصدر الصفحة الاولى بمانشيت عريض على ثمانية اعمدة ، الخبر يعطي اشارة واضحة الى ان صاحب المعالي استحق الدخول الى الشماعية ،مستشفى الرشاد حاليا، ولابد من البحث عن بديل يشغل منصبه ، حفاظا على سمعة الكابينة الوزارية.
تقارير المنظمات الدولية المعنية برصد ومعالجة الأمراض النفسية والعقلية ، اشرت ارتفاع نسب الإصابة في المناطق المضطربة امنيا وسياسيا . الدول العربية بوصفها مضطربة على الدوام سياسيا وأمنيا واقتصاديا ، شهدت ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض العقلية والنفسية ، في حالات احتدام الأزمات ووصولها الى التهديد بشن حروب داخلية وخارجية ، يتردد حديث بين الأوساط السياسية والشعبية بأن صاحب القرار فقد عقله ، ولابد من عرضه على طبيب مختص لتفادي حصول الكارثة .
ما يعرف بالإعلام المضاد يبحث دائما عن معلومات لتأكيد حقيقة اصابة زعيم سياسي او مسؤول كبير بالجنون ، احيانا يلجأ الى استعراض المواقف والخطابات والتصريحات ليشير الى ان امين عام الحزب الفلاني فقد عقله واستحق الدخول الى الشماعية ، اما منافسوه فيعبرون عن سعادتهم بسقوط رمز لطالما كان نداً لهم ، خرج من حلبة العملية السياسية بالضربة القاضية.
بيانات وزارة الصحة والبيئة بعنوانها الرسمي الجديد لم تصدر احصائية عن عدد العراقيين المصابين بامراض نفسية ، فيما اكدت وجود نقص كبير في عدد الأطباء المتخصصين بمعالجة الأمراض النفسية ، فيما دعت الى اعتماد "الوقاية خير من العلاج" بوصفه شعارا قديما يعود تاريخه الى العصور السومرية . قبل آلاف السنين كان الكهنة يمارسون مهنة الطب، يقدمون خدماتهم للجميع بدءاً من الحاكم الى شخص يقبع في الدرك الأسفل من طبقة العبيد. العلاج لا يتعدى استخدام بعض الأعشاب ،وبمباركة الآلهة يكتسب الشفاء التام . اما الحالات المستعصية المتعلقة بالأمراض النفسية فتحتاج الى جلسات في المعبد تحت اشراف احد الكهنة ، ربما يتحقق التحسن في حالة المريض ، وحين يرافقه سوء الحظ يدفن في العالم السفلي ، ثم يصدر المعبد بيان تعزية برقيم طيني بكتابة مسمارية يحتوي اسم المرحوم وعمله وسبب الوفاة.
مراجعة عيادة الطبيب النفسي توحي بأن المريض اصبح مرشحا لدخول مستشفى الشماعية ،لا امل في شفائه سواء تناول العلاج الكيمياوي او الأعشاب ، او خضع لجلسات خبير يستطيع طرد الجن من جسد المريض .في ضوء معايير المنظمات الدولية المتعلقة بارتفاع نسبة الاصابة بالأمراض العقلية والنفسية في مناطق الاضطراب ، ليس من المستبعد اطلاقا ان اصابة زعماء سياسيين في دول المنطقة باضطراب عقلي يتطلب عرضهم على طبيب نفساني بمستوى وخبرة الراحل جاكي عبود لإنقاذهم من جنون البشر والبقر .
خلال الايام الماضية شهدت الساحة العراقية مواقف سياسية متشنجة تنذر بكوارث ، رسخت قناعة العراقيين بأنهم على موعد للدخول في مرحلة جديدة من "صخام الوجه" وليس أمامهم سوى استذكار الطبيب الراحل جاكي عبود .
الرحمة لجاكي عبود
[post-views]
نشر في: 16 ديسمبر, 2016: 09:01 م