Iبعضنا يتحدث عن المدارس الأدبية كما عن بقع سحرية تركت وراءها الأسماء المشّعة في تاريخ الأدب الحديث. أو أن الاسماء الفنية والأدبية أبطال معارك او منافسات. فهذا أكبر وهذا أهم وهذا الأعظم وذاك الدون. شخصياً لا أحبذ صفات مثل أكبر وأهم ... انا انظ
I
بعضنا يتحدث عن المدارس الأدبية كما عن بقع سحرية تركت وراءها الأسماء المشّعة في تاريخ الأدب الحديث. أو أن الاسماء الفنية والأدبية أبطال معارك او منافسات. فهذا أكبر وهذا أهم وهذا الأعظم وذاك الدون.
شخصياً لا أحبذ صفات مثل أكبر وأهم ... انا انظر للآداب والفنون والاسماء على انها نتائج عظيمة للجهود الانسانية ومحصلاتها في هذه المجالات. بعض الاسماء تتضح وبعضها تركد او تكون خافتة الضوء. لكن هذا لا يعني ضياع ذلك الاسم او لا أهميته او انعدام اسهامه.
الانتاج حصيلة تراكم اجتهادات وتراكم خبرات ومعارف فردية يغذّيها حراك اجتماعي. نعم قد تبتدئ الظاهرة، كما تتراءى لنا باسم أو بمختلِف، لكنها جاءت نتيجة ذلك التراكم وحصيلة تلك المؤثرات حوله أو قريبة أو بعيدة عنه! اتضحت "ظاهرته" بحضور ظروف مواتية ومقدرة كامنة. فالاحترام اولاً للتاريخ البشري وللجهود الانسانية في الحقول كلها، منهما تصل الافرادَ الهباتُ والتبجيل.
وحين يتضح "التجديد" باسم، تبدأ التحولات والتنوعات ويكبر حضور الظاهرة، لأنها اصلا قد اتسعت. لقد احتدم وقودها فشعّت من برج واحد مؤهّل صادفها ..
الشعر الامريكي ابتدأ بـ ديكنسون وتحت تاثيرات الشعر الانكليزي. لكنه لم يبقَ كذلك. صارت له روحهُ وتعددت ظواهره وجاء بعض من هذا او قريب منه، لنا في العراق وفي عموم بلاد العرب. لكن هنا لا احد يقول ان ليس هناك شعر عربي او ان الشعر العربي الحديث ليس له ما يميزه.
التساؤل هو عن نوع ولون هذه التميزات ومدى اهميتها الفنية وان كان لها دور في التحديث. ولابد هنا، لكي نبدأ بداية صحيحة، من الاقرار بأن الشعر الحديث بدأ تحت مؤثرات تمتد الى منتصف القرن التاسع عشر وانتشر عبر القراءات المباشرة، وهذا قليل أو عبر المحاضرات والترجمات عن الانكليزية وقليل عن الفرنسية. ولا أرى للشعر الروسي "او السوفيتي" كبير اثر، وان كان فهو قليل محدود بمن درسوا هناك.
ولابد من الانتباه الى ان تلك التأثيرات لم تقتصر على التقنيات والاساليب ولكنها ايضا احضرت "اجواء" جديدة وموضوعات جديدة للكتابة. طبعاً لا نقصد هنا "معاني الفن" . لا تنحصر معاني الفن ولا معاني الموضوعات الشعرية في مكان من العالم، بحسب إليوت إذ يقول بأن المعاني، في القرون المختلفة، مشتركة بشكل يدعو للتساؤل.
بعض من الكتابات الجديدة اخذت من شكسبير او دون أو ملتن .. الارث الشعري هناك لم يفقد فاعليته. ان قراءاتنا لهؤلاء محكومة بما نراه و نكتبه اليوم وفي هذا غبن كما هو، بنسبة كبيرة، خطأ .
ثقافتنا اليوم تعيد القراءة وتعيد الكشف لنحكم بما يرضينا نحن. لكننا نكتب في زمن آخر وتلك كتبت في أزمنة اخرى. ولا ماضٍ فني او فكري يقطع كل صلاته بالحاضر. هو غذاؤنا الذي كبرنا به. المسألة هنا تقع ضمن حيوية الادب في تربته وتفاعلاته مع موروثه وجديده. هذا غير وارد في الشعر العربي الحديث لاختلاف مصادر ثقافته . واذا كانت هناك اشارات انتماء ثانوية، فليست للنابغة او المتنبي. الاشارات والانتماءات اكثر وضوحاً للشعر الانكليزي والفرنسي كما للكتابات غير الشعرية في البلدين. وهذه مسألة تحتاج الى درس علمي جاد. انا لا استطيع الان غير التنبيه لها.
المنظور التاريخي للفنون يكشف تسلسل احداث chronologies لكن من ناحية الإبداع، الفن لا يتحدد بحدث. هو بانورامي. نحن نخطئ جداً إذ نشعر بأن الفنان الذي يمثل represent عصره يعيش تجربته مثل راكب موجة في المد. لا ليس كذلك. هو عملياً اقل درامية من هذا. هو ليس على أية موجة، بل يقف بين الأمواج جميعاً فلا يمكن تحديد أي الحوافز وراء ممارسته لفنه. هو يعمل بمواد العصر وطبيعته لكن حوافزه تأتي مثل اهتزازات من جميع تلك المصادر النائية والتي لا يمكن تتبعها. هذه "الآتيات" هي التي تشكل أفكاره وتشكل شخصيته، لا كفنان حسب ولكن أيضاً كمواطن في زمانه ومكانه.
بهذا الفهم أريد ان اتلمس الحركات الادبية الحديثة. وعلى وجه التحديد، من بدء حضورها في عقول شعراء فرنسيين معينين وشاعر اميركي واحد ومن بدء هيمنتها في فرنسا الى تبنّيها من الشعراء الامريكان في القرن العشرين.
يمكن تحديد بدء المغامرة العالمية للشعر الامريكي باكتشاف بودلير لاعمال ادجار الن بو في 1847. يومها ادرك المواصفات التي موضعت حسّه الشعري والخط الرئيس The Poetic Principle فيه. اي انه حدد المبدأ الشعري الذي عمل بموجبه بو وهكذا وصل الادب الامريكي الى فرنسا نظرية غير مكتشفة في بلادها وتطبيقاً في فرنسا.
في "المبدأ الشعري" أكد بو مفهوم الجمال كحال زائلة وعلى الشاعر ان يضيئها، ان يلتقطها حيّةً قبل زوالها. تحدث ضد ذلك الشعر الذي يحمل الهجاء أو يتضمن أي شيء يتفق والوعظ او التعقلن او المحاججة العقلية. الشعر ليس مقالة اجتماعية. هو فن وفن شعري. قدَّم الشعر بوصفه وسيلة لذاته، لحقه الخاص هو بعيداً عن الفلسفة او الدين. ومطلبه لا الوعي الاجتماعي لكنه يمكن ان يوقظ او يوسع الوعي الروحي في المجتمع ليس غير.
حين نفهم طبيعة الحركة التي كان هو المحرض عليها، تبدو انها الملائمة لبو في زمنه : "المنفي في عقولنا" هو المضمون الامريكي الجديد.
"بو" كان ذلك المتناقض paradox ، رجل ذلك القرن المتزايد سعةً. لقد ادار عينه لا الى الحدود الجغرافية التي اضاءت العديد من الكتاب الامريكان، ولكن نظر الى داخله هو، الى حدود العقل الانساني التي لن يكتمل اكتشافها ابدا.
وبو هنا على خلاف "ويتمن" الذي كانت رؤياه الواسعة شمسا تشع عبر الغرب والذي ترجم نفسه دون قصد في كل المدى الشعري في امريكا.
II
مقابل هذا الوضوح عند ويتمن، نجد الاشكال الغامضة عند ادجار ألن بو حيث اصوات الخيال تأتي على رسلها فلا تدري أهيَ ارواح ام ملائكة تلك ام شياطين.
"هي أصوات عالمي الداخلي الخفي
الذي لا يراه أحد ..."
ليس صعباً ان ندرك ، من متابعتنا للشعر الامريكي، ان هناك الكثير من الافكار النقدية والبيانات ودعوات رفض التقليدي. وهناك ما يواجه هذا الاتجاه مما يحمل دعوات الواقعية وصدّها للافكار التي تحول دون الفن الذي يقصونه عن نضال الجماهير. وكانت لأولاء فلسفتهم المقنعة بتأكيد المشترك الانساني والاجتماعي والحاجات الانسانية ومنها الفرد ومتاعبه.
ما يهمنا ان ويتمن اعطانا اغنية جديدة عن اضواء النهار وروح الشعب، بينما سكن بو في الظلال الغامضة. بو في اكتئاب الليل الامريكي بينما ويتمن في النهار الكبير.
نتيجة ذلك ان هناك في "افق الاصيل" اجتمعت اشكال الواقعية مع اشكال الاحلام. اذن تكامل الشعر الامريكي الجديد..
ما يُلاحظ على شعر الحداثة العربي عموماً والعراقي بخاصة هو اختلاط بضعة شعراء مختلفين او انهم تقاربوا لكن لم يمتزجوا ليصنعوا شعراً جديداً يرسم ظاهرة ابداع وطني كما شهدنا في حالتي ويتمن وبو فكانت النتيجة ان هذا الشعر متعدد الملامح، متعدد الانتماءات، غير مستقر. فهو خليط مدارس او هو مصنوع من خليط قراءات. لم تكتمل هويته، لكنه ينتمي ، بدرجة ما ، الى ظلال الشعر في العالم !
المهم أن ادجار ألن بو هو أول من مهد للرمزية في الشعر. الرمزية شملت السنوات 1860 – 1890 واسماؤها هم : بودلير و مالرميه و ريمبو ثم فاليري. ومن المحسوبين عليهم أيضاً دي نرفال وكور بيير ولافورج . ومن الامريكان ستيوارت مرل و فرانسز فيل كريفن.
حقيقة الرمزية انها تحوُّل في الجمالية. هي اعادة تغيير العالم المرئي. عدد من الفنانين الذين رأوا عالماً يوازي عالمنا. رأوه أكثر حقيقية وصدقاً من عالمنا.
الرمزي يؤكد على ان الشاعر الحقيقي له داخل تعمل فيه كل تجربته للعالم بشكل رموز. وهذه الرموز هي التي تكوّن ، في الشعر، تجربته وتكون مركز جذب للمعاني كما للمفردات. وبهذا المعنى تكون الرمزية الجديدة محاولة حقيقية لإبعاد الرموز الميتة، التي شكلتها التراكمات القديمة للادب ولاكتشاف مناطق دفينة مما يثير الادهاش او الحدس .
وليم بتلر ييتس من أوائل واعظم الشعراء الذين تأثروا بالرمزية. وهو الذي قدَّم هذا الايضاح:
"الرمزية الحقيقية هي التعبير الوحيد الممكن
عن جوهر الانسان الغامض. هي مصباح كاشف
يتحرك. شعلة وراء لهبنا الروحي.."
اما المغزى فهو واحد من صور الشيء المجسَّد لا ينوب عنه. في كلمة "كشف لا مس ييتس لحظة الفصل التي يتميز بها وجه الرمزية وزودنا بمفتاح للمراحل التي تشكلت بها جمع الفنون من جديد.
لم يعد الفن تقريراً عن تجربة ولكنه يوثق التجربة، يوثق طريقة الاكتشاف، يكشف الطريق الى الرؤيا. وبدلاً من أن نعزل "عاطفة لشيء"، او نهتم به مما هو في هدْأة بعيدة مخفية، صرنا نمتلك اهتماما وعاطفة لا تنفصل عما هي جزء منه، عن المُضطَرب العام التي هي فيه.
كما ان الرمزيين، بتركيب اللغة ، باختيار المفردة، يمكّنون الخيال لأن يكون آلة الكشف والايغال. فهو اكثر حساسية وكشفا من العقل والمنطق. بهذه الوسائل صارت الحركة الرمزية محاولة لاعادة منطقة الشعر وتوسيعه أكثر ليشمل الوعي الديني والوجود الغامض وخبرات الانسان الغائرة التي لا يدركها العلم. قال أدموند ويلسون:
"الرمزية هي الموجة الثانية من مد الرومانسية
الذي غمر اوروبا في منتصف القرن التاسع عشر.."
وبعد ضمور الرمزية في امريكا، الشاعران الامريكيان الوحيدان، المهمان اللذان تأثرا بالرمزية واحتفظا بها هما أزراباوند و ت. س. أليوت. وقد اتضح هذا الاهتمام والتبني في اشعارهما كما في كتاباتهما المركزة وبخاصة باوند الذي يمكن ان تقول: انه اعاد الوهج للشعر الامريكي لولا ارتداده ودخوله المستشفى. فترك فراغاً وشمل الحراك الشعري ضمور ، خمود الحضور حتى شع هذا الشعر ثانيةً في والاس ستيفنسون وماريان مور، شاعران امريكيان تميّزا ثانيةً في الطريق...
الصفاء الجديد الذي اكتسبته لغة الشعر وتطور مفهومه اوصلانا الى حركة اسهم فيها شعراء امريكان وانكليز. هذه الحركة اعتمدت لغة حديثة اكثر تركيزاً ودلالات وأكثر رشاقة، كما اعتمدت مواصفات الرمزية. وقد عُرِفتْ هذه الحركة وفُهمت في اميركا باسم الصورية Imagicm . هذه الحركة توسطت حالتي الرمزية السائدة في فرنسا وفي أمريكا :
"هي بيت في منتصف الطريق.."
وفي هذا البيت تبلورت ظاهرة الشعر الحر، الشعر من غير وزن وقافية...










