أواصل في هذا القسم - وأقسام أخرى ستأتي تباعاً - نشر أجزاء من الفصول الأولية للسيرة الذاتية الموجزة التي كتبها الفيزيائي النظري وعالم الكونيات الأشهر ( ستيفن هوكنغ ) ونشرتها دار نشر بانتام Bantam عام 2013 بعنوان ( موجز تأريخ حياتي My Brief History) .ا
أواصل في هذا القسم - وأقسام أخرى ستأتي تباعاً - نشر أجزاء من الفصول الأولية للسيرة الذاتية الموجزة التي كتبها الفيزيائي النظري وعالم الكونيات الأشهر ( ستيفن هوكنغ ) ونشرتها دار نشر بانتام Bantam عام 2013 بعنوان ( موجز تأريخ حياتي My Brief History) .
المترجمة
موجز تأريخ الزمان
راودتني للمرة الأولى فكرة كتابة كتاب علمي لعامة الناس حول الكون عام 1982 . كانت نيّتي من وراء كتابة ذلك الكتاب - جزئياً - هي الحصول على مايكفي من المال اللازم لتسديد نفقات دراسة ابنتي ( الحقيقة أن الكتاب نُشِر بعد ان بلغت ابنتي سنتها الدراسية الأخيرة !! ) ، ولكن الدافع الأكبر لكتابة كتابي ذاك هو رغبتي الجامحة في جعل الناس يدركون كم بلغنا في فهمنا للكون وكم نحن قريبون من بلوغ نظرية قادرة على وصف الكون وكل شيء فيه .
كنت أفكر آنذاك أنني إذا ماعزمت على بذل مايكفي من الوقت والجهد في كتابة كتاب فينبغي له أن يبلغ أكبر عد ممكن من القراء . جرت العادة أن تُنشر كتبي التقنية السابقة من قبل مطبعة جامعة كامبردج المرموقة والتي نشرتها بعد بذل جهود طيبة محمودة ، غير أن شعوري السائد بشأن كتابي المزمع هو أن جامعة كامبردج لاتملك مزاج النشر لكتاب من النوع الذي أعتزم إيصاله لعامة الناس ؛ لذا اتصلت بوكيل أدبي يدعى ( آل زوكرمان ) كنت قد تعرّفت عليه سابقاً بوصفه صهر زميل لي وسلّمته مسوّدة الفصل الأول من كتابي واخبرته أنني أريد للكتاب أن يكون من نمط الكتب التي كثيراً مانشهدها تُباع في أكشاك بيع الكتب المنتشرة في المطارات . أخبرني زوكرمان لاحقاً أن ليس ثمة من فرصة للكتاب في أن يحقق ما أصبو إليه ؛ فهو قد يحقق مبيعات جيدة بين أوساط الأكاديميين والطلاب ولكنه لن يرقى بأي حال من الأحوال إلى تخوم مملكة ( جيفري آرتشر* ) .
سلّمتُ زوكرمان نسخة كاملة من المسودة المقترحة للكتاب عام 1984 ، واقترح عليّ أن أقبل عرضاً من دار نشر ( نورتون ) الأمريكية التي تصنّفُ في عداد النخبة بين شركات النشر الأمريكية ، غير أنني فضلت قبول عرض دار نشر ( بانتام ) التي توجّه كتبها المنشورة في العادة نحو سوق القارئ العام ، ومع أن دار نشر ( بانتام ) لم تتخصص بنشر الكتب العلمية غير أن كتبها كانت تغزو أكشاك بيع الكتب المنتشرة في المطارات .
ربما يمكن أن يعزى اهتمام دار نشر ( بانتام ) بنشر كتابي إلى الجهد العظيم الذي بذله أحد محرريها ( بيتر غوزاردي ) الذي تولى مهمة نشر الكتاب بأعظم قدر من الجدية والحرص ودعاني لمرات كثيرة إلى إعادة الكتابة بما يجعل الكتاب في حدود فهم القارئ العادي غير المتخصص من أمثاله ، وفي كل مرة كنت أرسل له مسودة لفصل من الكتاب اعتدتُ كتابته بطريقة تتماهى مع طلباته كان يعيده إليّ مع قائمة طويلة من الاعتراضات والأسئلة التي يطلب فيها توضيحاً من قبلي ، ولطالما راودني شعور أحياناً أن تلك اللعبة مفتوحة النهايات ستستمر إلى الأبد ، لكني أرى اليوم أن مافعله غوزاردي هو الصواب بعينه ؛ فقد كانت النتيجة أن أصبح كتابي المنشور أفضل كثيرا بالمقارنة مع الصيغة التي كتبته بها أول الأمر .
مررتُ بأوقات انقطعت فيها عن العمل في كتابي بسبب إصابتي بالتهاب رئوي خلال عملي في سيرن CERN ( المركز الأوروبي للبحوث النووية ) ، ومن جانب آخر كان من الصعب إنجاز العمل بسبب بطء برنامج الكتابة الحاسوبي الذي كنت أعمل بمساعدته ولكنه جعلني أفكر في الكتابة ببطء وعلى مهل وهو أمر ناسبني كثيراً وجعلني أمضي في كتابة نسخة معدّلة من الكتاب طبقاً لملاحظات غوزاردي ، وقد ساعدني في إنجاز تعديلاتي ( بريان ويت ) - أحد طلبتي في الفيزياء .
كنت قد أعجِبتُ من قبلُ بالسلسلة التلفزيونية المدهشة المسماة ( ارتقاء الإنسان The Ascent of Man ) للعالِم جاكوب برونوفسكي ( التي ظهرت في القناة الثالثة من ال BBC عام 1974 ، المترجمة ) ، والغريب أن عنواناً مثيراً مثل هذا لم يعد مقبولاً في أيامنا هذه !! وقد منحت هذه السلسلة المشاهد شعوراً حياً ومباشراً بطبيعة إنجازات الجنس البشري خلال مسيرته في الارتقاء من كائنات متوحشة بدائية نحو حالتنا المدنية الحاضرة خلال خمسة عشر ألفاً من السنوات ، ومن جانبي أردت القيام بالأمر ذاته في كتابي : منح القارئ شعوراً بالجهود الدائبة نحو تفهم كامل لطبيعة القوانين التي تحكم الكون بأسره ، وكنت كامل الثقة بأن كل فرد تتملكه رغبة طاغية في معرفة طبيعة الكون وكيفية عمله ؛ غير ان معظم الناس لايمتلكون القدرة على متابعة التفصيلات الرياضياتية التي تتطلبها المعادلات ، وربما سيكون غريباً لو قلت أنني شخصياً لا أهتم كثيراً بالمعادلات الرياضياتية المعقدة ربما لعدم قدرتي على كتابة تلك المعادلات بيدي ، ولكن السبب الأعظم وراء ذلك يكمن كما أظن في عدم امتلاكي لأي شعور حدسي تجاه تلك المعادلات التي أفكر فيها بمعونة مفردات تصويرية pictorial ، وكانت خطتي في الكتاب هي أن أنقل تلك المفردات الصورية الذهنية إلى كلمات يفهمها القارئ العادي غير المتخصص بمعونة بعض التشبيهات المعتادة لعامة الناس مقرونة ببعض المخططات البسيطة ، وبهذه الطريقة كان أملي وطيداً في قدرتي على جعل معظم الناس يتشاركون الدهشة والشعور بأهمية الإنجازات التي تحققت خلال عملية الإرتقاء المتواصل في ميدان الفيزياء خلال الخمسين سنة الماضية .
ولكن حتى لو تفاديتُ الرياضيات ستظل بعض الأفكار عصية على التوضيح والفهم ، وهذا مامثّل إشكالية جابهتها على الدوام أثناء العمل على كتابي : هل ينبغي لي أن أمضي في محاولة توضيح تلك الأفكار مع ماقد يحتمله هذا الأمر من التسبب في إرباك القرّاء ، أم الأفضل لي أن أتستر على مواضع الصعوبات حيثما ناقشت تلك الأفكار ؟ إن بعض المفاهيم غير المعتادة للقارئ العادي ( من قبيل ان مراقبين يتحركون بسرعات مختلفة سيقيسون فترات زمنية متباينة بين حادثتين محدّدتين ) لم تكن ضرورية أو أساسية في رسم الصورة التي أردت نقلها للقارئ ؛ لذا شعرتُ أن بمقدوري الاكتفاء بذكر تلك المفاهيم دون التوغل المعمّق في حيثياتها التفصيلية ، ولكن من جهة أخرى كانت هناك بعض المفاهيم المعقدة والأفكار الصعبة التي لم يكن ممكناً تجاوزها أو الاكتفاء بذكرها لكونها تتغلغل جوهرياً في صلب العمل الذي أريد للقارئ أن يدركه ، وكان ثمة مفهومان بخاصة من هذا النمط شعرت بضرورة تضمينهما في الكتاب : الأول يختص بتراكم تأثير الحوادث الكونية خلال التواريخ المتعاقبة sum over histories ، ويتأسس هذا المفهوم على فكرة أن ليس هناك تأريخ واحد قائم بذاته ويعتدُّ به للكون ؛ بل ثمة مجموعة من تواريخ عديدة تضمّ كل تأريخ ممكن للكون ، وأن كل هذه التواريخ على قدر المساواة من حيث كونها حقيقية ( بصرف النظر عمّا يمكن أن تعنيه كلّ منها ) ، أما الفكرة الثانية - وهي خليقة بإضفاء معنى رياضياتي على مفهوم التواريخ الممكنة للكون - فهي فكرة الزمان الخيالي ، وربما يندرج في عداد الإدراك المتأخر أنني أشعر اليوم بضرورة بذل جهد أكبر من قبلي وضخّ المزيد من التفصيلات والإيضاحات في كتابي بشأن هذين المفهومين المنطويين على قدر غير قليل من الصعوبة وبخاصة مفهوم الزمان الخيالي الذي بدا أكثر المفاهيم في الكتاب تسبباً لمعاناة القرّاء وإرباكهم ، ولكن على العموم يكفي القول ان لاضرورة حقيقية ملحة لفهم المدلول الدقيق لفكرة الزمان الخيالي ؛ يكفي الإدراك بأنه مفهوم يختلف عما ندعوه الزمان الحقيقي وحسب .
عندما اقترب موعد نشر الكتاب حصل أنّ عالِماً - أرسِلت له نسخة من الكتاب مسبّقاً بقصد كتابة مراجعة له في مجلة نيتشر Nature المرموقة - أصابه الفزع بعد أن وجد الكتاب مليئاً بالأخطاء وأن الصور والأشكال التوضيحية قد وضعت في غير مواضعها الصحيحة في ذات الوقت الذي كانت الشروحات المرفقة بها خاطئة ولاتعود لها !! فما كان من ذلك العالم سوى الاتصال بدار نشر ( بانتام ) على وجه السرعة ، وقد فزِعت الدار بمثل فزع العالم وقرّرت استرجاع النسخة المطبوعة وإتلافها على الفور ( ربما سيأتي يوم تمثل فيه النسخ القليلة الباقية من الطبعة الأولى الأصلية للكتاب مصدر فائدة عظمى لانتخيلها اليوم ) . أمضت دار ( بانتام ) ثلاثة أسابيع متواصلة من العمل المكثف في تصويب ومراجعة الكتاب بأكمله حتى صار جاهزاً ليصل رفوف المكتبات مع يوم الحمقى April Fools’ Day ( وهو مايدعى أيضاً كذبة نيسان ، المترجمة ) ، وفي اليوم ذاته نشرت مجلة تايم الامريكية ملفاً عني .
أصابت الدهشة دار نشر ( بانتام ) على نحو لم تعهده بسبب الطلب المتواصل على الكتاب الذي ظلّ على قائمة صحيفة النيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعاً لمدة 147 أسبوعاً ، وكذلك على قائمة التايمز اللندنية بعد أن كسر الرقم القياسي للكتب الأكثر مبيعاً وظلّ على لائحة قائمتها لمدة 237 أسبوعاً ، كما تُرجِم الكتاب لأكثر من أربعين لغة وبيعت منه نحو العشرة ملايين نسخة في كل أنحاء العالم.
كان العنوان الأصلي الذي إخترته عنواناً للكتاب هو ( من الانفجار العظيم إلى الثقوب السوداء : تأريخ قصير للزمان ) ، غير أن غوزاردي أبدل مواضع العنوان الرئيسي والثانوي كما غيّر كلمة ( قصير ) في العنوان وجعلها ( موجز ) ، ولاشكّ في أن فعلته هذه كانت ضربة معلّم خبير ساهمت بدورها في نجاح الكتاب ، ومنذ نشر كتابي شهدت أسواق النشر ظهور تواريخ موجزة عديدة بين الفينة والأخرى بما في ذلك موجز تأريخ الزعتر !! . إن التقليد في عالم النشر هو الشكل الأكثر تمثيلاً للإطراء أو ربما المداهنة والتملق .
لكن لماذا اقتنى كثير من الناس كتابي ؟ سيكون من الصعب عليّ حتماً أن أكون موضوعياً في إجابتي ؛ لذا سأعتمد على ماقاله الآخرون بهذا الشأن : وجدت الكثير من المراجعات التي كُتِبت بشان الكتاب جذابة لكنها افتقدت القدرة على بعث الإلهام المطلوب في نفس القارئ ؛ فقد إعتمدت جميعها على توظيف العبارات التقليدية التالية ( يعاني ستيفن هوكنغ من مرض لو غيهريغ - طبقاً للمصطلح الوارد في المراجعات الامريكية - ، ومن مرض الأعصاب الحركية - طبقاً للمراجعات البريطانية - . هو مقيّد طول الوقت إلى كرسيه المتحرك ، لايستطيع الكلام ، ولايمكنه تحريك سوى س من أصابعه - حيث تتغير قيمة س مابين الواحد والثلاثة تبعاً للمعلومات غير الصحيحة في كل الأحوال التي استقاها المُراجِع من المقالات التي قرأها بشأني - ، وبرغم هذا فقد كتب هذا الكتاب الذي يتناول فيه السؤال الأعظم بين كل الأسئلة المطروحة على البشرية : من أين أتينا وإلى أين سينتهي بنا المطاف ؟ إن الجواب الذي يقدّمه هوكنغ في هذا الكتاب هو أن كوننا هذا لم يُخلَق ولاينهار على نفسه بل هو موجود بالكيفية التي نراه بها الآن وحسب ، ولأجل أن يضع هوكنغ صياغة مقبولة لفكرته هذه فإنه يلجأ لمفهوم الزمان الخيالي الذي أجده ( المقصود هو مُراجِع الكتاب ) صعبا بعض الشيء على الفهم والمتابعة من قبل القارئ . لكن برغم هذا إذا كان هوكنغ مصيباً في رؤيته بشأن حصولنا على نظرية موحّدة كاملة فسيكون عندئذ بإمكاننا القول أننا بتنا ندرك مايدور في عقل الربّ ) .
* جيفري آرتشر Jeffrey Archer : سياسي وكاتب بريطاني الجنسية ولِد عام 1940 وكان عضواً في البرلمان البريطاني عام 1969 . نشر روايتين لم تحققا نجاحاً كبيراً ، ثم نشر روايته الثالثة ( كين و آبل ) عام 1979 التي حققت نجاحاً مدوياً وظلت على قائمة أفضل الكتب مبيعاً لفترة طويلة ، ثم نشر بعدها ثلاثين رواية أخرى . ( المترجمة )