على سرير الجريد ذاته، حيث رقدت ليلتك الأخيرة سجّيتك، فرشتُ حصير الخوص عليه ورقدت، كنت بلا حراك، فقد همد الجسد همدته الأخيرة، مددتَ يديك وصارت قدماك تلامسان نهاية الحصير الخشنة، حتى خشيت عليك من أن تتسبب حاشيته المضفورة بإيذائك، وكنت بلا حراك، جرّدك الغاسلون من دشداشتك الأخيرة، رأيتهم وهم يقلبونك ذات اليمين وذات الشمال، رأيتهم وهم يمعنون كتاب موتك تصفحاً، وأنت تستجيب، صار الجسد العنيد طائعاً، مستجيباً لأكفهم، وهي تخلل الماء تحت الإبطين وبين فروج الأصابع. ياه، لكم كنت منقاداً، ذليلاً !!
لم يأذن لي أحدٌ منهم بالدخول عليك في مغتسلك، كانوا يخشون على فؤادي من أن ينصدع بمشهدك، الذي أنت عليه، لكنني كنت أسترق النظر، فأرى الماء وهو يساقط منك ويسقي العشب الذي تحت السرير، سيزهر منك، لا محالة، فقد كنت القطر والندى لروحي ذات يوم. كنت أحسب وريقات السدر التي تجمدت ميتة على الأرض، تحت سريرك، وكنت اشم رائحة طلع، ودخان حطب رطب، وأسمع صوت ماكنة سقي، تتكتك مذعنة لما ينهمر من مائك وأوراق سدرتك، التي لو شئت لقمت تجمعها. اكنتَ ميتاً حقاً، أذعنتَ لمشيئة هؤلاء الذين تناوبوا على غسلك، غسلك عن ماذا؟ اكنت بحاجة الى جرادل الماء هذا، لكي تبدو نظيفاً، طاهراً عند الله؟ ولماذا يمعنون بصب الماء غزيراً على رأسك وظهرك وبطنك وكتفيك هكذا، أما كنت على الطهر الذي كنته قبل اليوم هذا؟ أيما والله.
الآن، يرفعك الغاسلون من السرير، ها،هم يمسحون القطرات الأخيرة التي علقت بجسدك، دشداشتك، يشماغك الفراتي، لاطيتك، نعالك وثيابك الداخلية أيضاً في ركن من المغتسل بعيداً، لم يمسسها الماء بسوء، ظلت يابسة مثل روحي التي يبست برحيلك، هذه أول مرة أشعر فيها بأن الماء غاية الطهر، وهو مخلوق ليصب على أجساد الطاهرين، حسب. ولكي تبدو اكثر موتاً راحوا يلفونك بالأبيض، ثم ربطوك من ظهرك، لا، لم يكن حزاماً من ليف وخوص هذه المرة، أبداً، فحزامك الآن من قماش، عصبوا رأسك بقطعة بيضاء، يا إلهي، تذكرتُني طفلاً، تقلبني بين يديك، انت أخي، ابن أمي، الذي تكبرني بعقد ونصف، تذكرتُني وأنت تأخذني عاليا وتهزني في أرجوحة بين نخلتين، فرعين من شمس وريح ، وأنت تاخذني الى النهر، وانت تطعمني التمر بالخبر واللبن والزبدة، في البيت الذي ننأى معا،عنه الآن.
ما كنتَ أخاً، لا والله، كنت أباً، وكنت البيت والنخلة والليل الدفيئ والخوان، ألقمتني الحرف الأول حين شحت الحروف وتعطلت اللغات، ووقفت تنتظرني عند بوابات العالم الذي راح يتسع من حولي، فيا أخي، لئن كنتُ أحمل نعشك الى مثواك الأخير مع من حملك وشيعك، فانا المعنيُّ بهذا الجسد الذي حملني وطوّح بي الدنى ذات يوم، ولئن مددتُ يدي جانياً من نخلة، فقد سبقتني اليها غارساً، وإلى عليائها صاعداً، وإلى عذقها ملقحاً، وإلى شماريخها مدلياً وإلى فواختها حانياً، ولئن رأيتني واقفا على قنطرة، فارعاً، مستقيماً، فوالذي اخذها منك، أنت من عرّف ضفتي النهر لي، وعلمني الرواح والمجيء لأنك وحدك من آخى في روحي بين الموج وأسبل الغضارة على المتون والأكتاف والأقاصي، وانت من انفجرت الشمس بوجهه قبلي، وانت من راحت تتشابكُ خيوطُها بين يديه، غائبة متعثرة بين السعف واغصان التوت والرمان. الآن وأنا أعود خِلواً منك، بعد امتلاء ودعة، أسألك الصفح مثلما أسأل الله أن يجعل التراب ريشاً عليك، فقد كنت ترفقت بي يوم استغلظت الأيامُ عليّ.
في شبه وداع أخير إلى ابن أمّي بدريّة
[post-views]
نشر في: 20 ديسمبر, 2016: 09:01 م