TOP

جريدة المدى > عام > حيرة الذات في كتابة الأدب

حيرة الذات في كتابة الأدب

نشر في: 25 ديسمبر, 2016: 12:01 ص

في الادب، كما في الفنون كلها، ظل التساؤل حاضراً : هل نكتب فناً "سامياً" و "حميماً" بعمق خاص تفهمه النخبة او المعنيون بالأدب، أم نكتب بسيطاً لا يبتعد كثيراً عن السذاجة والاعتيادية اليومية؟ لنا الكتابة أم لسواد الناس و للحشد حولنا؟هذا التساؤل كان وراء

في الادب، كما في الفنون كلها، ظل التساؤل حاضراً : هل نكتب فناً "سامياً" و "حميماً" بعمق خاص تفهمه النخبة او المعنيون بالأدب، أم نكتب بسيطاً لا يبتعد كثيراً عن السذاجة والاعتيادية اليومية؟ لنا الكتابة أم لسواد الناس و للحشد حولنا؟
هذا التساؤل كان وراء حماية بعض الاعمال التي خلدت، مثلما وراء شعبية وآنيّة الكثير من الأعمال التي لم تترك أثراً ..
قال نيتشه، وهو يقدم  زرادشت: "كتابٌ لكل واحد وليس لأحد..." بهذه الكلمات عبّر عن فهمه لمسألة ان يكون للكاتب قراء وأمله بعالمية او انتشار، كما تضمّن قوله اهتمامه بقراءته الخاصة وعمقه الخاص والذاتي.
لكن ستاندال، في هذا الشأن، قال: أنه يكتب "للقلة السعداء" وظل أمله ان تلقى كتاباته رواجاً. الكُتّاب الأكثر تواضعاً يقرّون بتفضيلهم وبرغبتهم في ان تكون كتبهم ضمن "الأكثر مبيعاً". وقد كان ذلك همهم منذ البدء. كلامهم هذا اكثر أمانةً لكنه ليس مقنعاً تماماً للذات الخفية ولا يتعدى كونه محاولة ربما مؤسفة لارضاء "إنَسانهُ العادي" لا الفنان. على أية حال، الكاتب عموماً يكتب ليُقرَأ على نطاق واسع وعالمياً إن أمكن.
لكن، وكما يقول مينس سبربر Manes Sperber : الكاتب الحقيقي يكتب لاسباب اخرى تماماً، ليس للناس لكن لقارئ واحد معين واقرب من الجميع، ذلكم هو نفسه وبعد ذلك "للقلة غير السعداء،" للمفضلين من القلة، القلة المتلاشية وأولاء جميعاً لا يحسب لهم حساب في سوق الكتب.. وثمة حقيقة يمكن ادراكها في جميع الاقطار، هي ان للنقاد تأثيراً بسيطاً جداً على شراء الكتب أو على مبيعها، بسبب ان النقاد انفسهم ينتمون لهذه القلة وهم يخاطبون قلةً أيضاً. الجماهير لا تقرأ نقداً.
حيرة الكتّاب الجوهرية هي بين الفن فناً ولا خسارة المبيع أو الجمهور الاوسع. الكاتب يحدث نفسه عن الأسرار الحميمة، الأكثر حميمية، ويريد الناس ان يصغوا إليه، أي الى اللايُفهَم !
هذه المسألة وهذه الحيرة تكشفان عن حقيقة دائمة هي ما لا يرضي عموم القراء وما يحتمل من الاعمال أبعاداً اوسع واعمق، هو الذي تتحدث عنه الكتب والدراسات. الكتب الاخرى كثيرة المبيع لكن مواسم الاهتمام بها نادراً ماتكون مستمرة، وهنا الخلل. بينما الاعمال متعددة الآفاق والدلالات، هي الكتب المحترمة في الدرس والمكتبات.
هذا التساؤل او هذه الحيرة ستظل عبر أجيال من مبدعي الاعمال الادبية والفنية المهمة وعبر نقادهم ودارسيهم أيضاً. وما يزال هذا الموضوع يُثار بين حين وآخر. عموماً ليس سهلاً ان يحقق الكاتب حميمية وعالمية في أوساط تجارية. لا نار ثلجية ولا ثلج ناري! لكن الفن يسعى لجمع هذين المتضادين او غير المؤتلفين، بين ما يريده هو وبين ما يريد الناس. هي رغبة محيرة وعسير تحقيقها من غير خسارة. لكنها تتحقق ويتكرر تحققها، وهنا موضع العجب.
في احوال كثيرة يطيب الانحراف والكاتب يكتب للجمهور الذي يخالفه "ذوقاً وحاجات"، يتناقض معه افكاراً ومستوى فهم. فهو يتعمد ارضاءهم، فيستحيل بذلك إنساناً آلياً يؤدي مهام. وهذا شبيه بما يفعله النجار او الصناعي وهو يعمل للسوق افضل ما يستطيع. الفارق ان الكاتب الحقيقي، المثالي الواقعي، يصنع جمهوره هو. فيجد نفسه ويجدهم! الداخل الحميم يصير "منتجاً"، ينتج خلاصات وانعكاسات نفس وأفكاراً وذاتاً قريبةً من البعيدين عنه وتهمهم.
الادب والكتابة، وكل الفنون، ليست تجارة اصلاً. فعلينا الانتباه والحذر مما قد تؤول إليه هذه الفنون. لا تكن في السوق وتنسى نفسك! ستكون تلك بضائع ميتة، او فيها علة مميتة. اعني قد تموت بعد شرائها من السوق بأشهر أو بأسابيع وأحياناً بعد قراءتها! بعضها لن نقرأها ثانيةً وقد لا يقرأها بعدك أحد! وهنا تكون قد خسرت الروح واضعت الفن وكسبت السوق كسباً كاذباً لأيام. فرق بين ان يضحي الكاتب بفنه وبنفسه ووقته ليكسب السوق وبين ان يفعل كل ذلك ليمد حميميته في الفن لهم فيكون بعضاً حياً منهم و ينتمون هم اليه. هذه هي حميمية الفعل الفني ولذته التي ما بعدها لذة! وهذا لا يتم الا اذا كان العمل او الخطاب موجهاً الى قلة بينه وبينهم نسَبٌ ما. اعني الى عدد محدود تلامسهم حميميتهُ وروح العمل. ذلك يستدعيهم الى عالمه فيجدون انفسهم والكاتب مؤتلفين في عالم واحد. أولاء غير عموم مشتري الكتاب.
في السينما يحصل ذلك وتختزل مسافات واحداث لتكون الرواية – فلماً وليتمكن منها التصوير السينمائي. كما قد يرسم الرسامون اعمالا من اجل السوق لا من اجل الفن!
صناعة الكتاب وحضور السوق، او الجمهور، يسحبان الشاعر او الكاتب الى اخطاء لا ينتبه لها أيٌّ منهما وهو في غمرة الحماسة. بعضهم ينتبه لنفسه من بعد. ومن هؤلاء فلوبير. فانتحار إيما نهاية جيدة لقصة حب. ولكن ليست جيدة بسبب تعاسة حب أو للتخلص من الافلاس. "الخارج" هنا، لا فلوبير الحقيقي، سحب الكاتب الى ما يريد فاستجاب هذا بعيدا عن عالم ذاته وانتباهاته الروحية.
من مراجعة انفسنا والنظر في نوع الكتب التي تريحنا، يمكن ان نلمس أن قراءة تلك الكتب او القصائد او اللوحات، هي لإرضاء حاجات عميقة في نفوسنا. بعضها قد يكون واضحاً وأكثرها دفين! وهذه الكتب او القصائد او اللوحات تصنع او تُكمِل إيماناً وتكمل انصاف حقائق.
الادب لا يقدم مشورة. هو يتحدى القارئ، يجابهه بأسئلة لا يستطيع هو، الادب، ان يبت فيها او ان يوفر لتلك الاسئلة اجابات نهائية. الادب مرآة تكشف الطريق للحقيقة من دون ان يؤكد وجودها. وقراء الأدب هم ؤلئك الذين يعرفون ما معنى العيش من دون إيمان بالسعادة ومن دون قناعات ثابتة. وجمهور الادب الحقيقي، في كل مكان، اقلية صغيرة. المهم ان عددهم بازدياد لان العصر يتقدم وعياً وإحساساً فردياً.
يمكن الآن ان نتنبأ بمستقبل عظيم للأدب على خلاف ما يبدو. ما نحتاج له هو الصبر عقودا قليلة، وليكن قرناً من الزمان وستتسع الآفاق، آفاق الكتابة و آفاق القارئ. وسيزداد الكاتب غوراً وكشوفات. لن يكون أدب المستقبل مثلما هو أدب اليوم!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تهـــــــريـــــج

عدد جديد من مجلة (المورد) المحكمة زاخر بالبحوث العلمية

مقالات ذات صلة

الطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها المبدعون
عام

الطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها المبدعون

استطلاع/ علاء المفرجي تتواصل المدى في الوقوف عند محطات الطفولة والنشأة الأولى عند عدد من مثقفينا ورموزنا الفكرية، ومن خلال حواراتهم مع المدى، وتكمنُ أهمّيّة المكان والطفولة بوصفها السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram