5-6
في العمود السابق رويت، كيف أن أبي وهو يريني مجلة الكشاف العراقي، التي عثر عليها في سوق السراي وجلبها لي من رحلته إلى بغداد، حدثني عن فرقة الكشافة التي تأسست في زمن الملك فيصل الأول الذي كان مهتما جدا بأمر الفرقة، وكيف أنه طلب من المشرفين عليها والمتطوعين فيها أن يبذلوا قصارى جهدهم من أجل التطور وإتقان الألعاب الكشفية والتعامل مع ولده غازي، ولي العرش أو الوصي ككشاف وليس كأمير! ولكي يمزح أبي معي، قال لي، أن الأمير غازي كان مثلك ضعيف البنية ويُقال أنه كان أقل الجميع قدرة على الحركة واستيعاب المفردات الكشفية حتى أنه أثناء التدريب كان خجولا جدا وغير قادر على الاستعداد والاسترخاء مثل بقية أعضاء الفرقة المتمكنين وكثيرا ما كان يصاب بالتعب بعد أقل مجهود يبذله، علما أن الفرقة كانت تتدرب مرتين في الإسبوع. ربما تتساءل، قال لي أبي، لماذا أُختيرت الكشافة لتربية غازي بدنيا ولم يُزج في فعاليات رياضية أخرى؟ أجيبك : بأن العديد من الألعاب الرياضية لم تكن معروفة آنذاك لا في العراق ولا في بغداد على وجه الخصوص، كما إن الملاعب والقاعات والاتحادات الرياضية لم يكن لها وجود، وكانت الكشافة هي الرمز الأعلى للنظام وتقوية صلات العلاقة بين الفرد وجماعته ومجتمعه، كما انها الوسيلة الوحيدة التي يضمن فيها الملك فيصل الأول تربية ولده بدنيا وإجتماعيا وجعله أقرب إلى واقع حال عصره في بغداد، ولذلك اختيرت للفرقة الكشفية مجموعة من الصغار الأذكياء الذين هم في مقدمة فرق الكشافة في بغداد، وساروا في يوم 1 كانون الثاني/يناير 1926 بمشاركة ثلاث وعشرين فرقة كشفية مثلها 3000 كشافاً هم أعضاء الفرقة الملوكية، أنت منذ اليوم يا ولدي، لا خوف عليك، قال لي أبي، لكن بلهجة جاءت من صميم قلبه، خالية من أية نبرة ملوكية متعالية، لا تعرف ما ستجلب لك الكشافة من فوائد إيجابية.
فيما خصني لا أدري،حين صنفت انتسابي لفرقة الكشافة أولاً في مرحلة الدراسة الإبتدائية، ثم فرقة الجوالة لاحقاً في الدراسة المتوسطة والإعدادية، كان أمراً جيداً. أعرف أن الصنفين كانا محاولة لتربية الناشئة على الالتزام والطاعة. لكنني أعرف أنهما تأسسا أيضاً على حب المغامرة والفضول، ناهية عن زرع الثقة والاعتماد على النفس، وهذا ما جعلني أرغب بالانتماء لها إذا نحينا السبب الرئيسي: أناقة زي الكشافة.
الصديقة الشاعرة والروائية السورية التي تعمل وتقيم في باريس سلوى النعيمي (صاحبة البيستسيلير "شهد العسل")، كتبت لي عام 1998 م، وهي تهدي لي مجموعة قصصية لها، "إلى نجم جوال الآفاق والكلمات"، ولا أدري إذا أصبحت أنا ما أصبحت عليه جوالاً في الكلمات لو لم أكن أصلاً جوالاً في الآفاق ، أطوف في العالم مثل "بحار على اليابسة"، كما أطلق الأندلسي الشاعر رافائيل البرتي على ديوانه الأول، أو لو لم أدخل فرقة الكاشفة وبعدها الجوالة؟
لا أستطيع أن أحصي الرحلات التي قمنا بها في ذلك الوقت، لكنني أعرف أنها لا تُحصى، في فترة الكشافة ذهبنا فقط إلى القرى والأرياف القريبة: المشتل (منطقة حفظ بيئة) على طريق الكحلاء أو مسعيدة، بساتين قلعة صالح، المنطقة الرئيسية إن لم تكن العاصمة بالنسبة لطائفة الصابئة المندائيين، أهوار العمارة، هور الصحين عند ناحية الميمونة (اليوم قضاء الميمونة)، هور الطويِّل (عند ناحية السلام)، هنا كدت أن أغرق وأخرجني زميل لي من الكشافة، وأسماء أخرى لا تحضرني، لكن كلها تابعة للواء العمارة، أو ما يُطلق عليه محافظة ميسان الآن.
 يتبع