الحزن على رحيل فنان هو رد فعل طبيعي لفقدان مبدع ارتبط بذاكرتنا ووجداننا، وعبر بموهبته وقدراته عن ما لا نستطيع البوح به أما خوفا من المجتمع أو السلطة، أو لعجز لدينا في التعبير عن الذات. فنان الشعب والأب الروحي للمسرح العراقي يوسف العاني رحمه الل
الحزن على رحيل فنان هو رد فعل طبيعي لفقدان مبدع ارتبط بذاكرتنا ووجداننا، وعبر بموهبته وقدراته عن ما لا نستطيع البوح به أما خوفا من المجتمع أو السلطة، أو لعجز لدينا في التعبير عن الذات. فنان الشعب والأب الروحي للمسرح العراقي يوسف العاني رحمه الله كان من الفنانين الذين بلغوا هذه المكانة...
وعندما يكون الفقيد فنانة برقّة وعذوبة الراحلة زبيدة ثروت فإن الخسارة محزنة لكوننا نسدل الستار بلا رجعة على حقبة زمنية اتسمت بقيم ومعان جميلة بتنا في عوز شديد اليها في أيامنا الحالكة هذه. قبل أسابيع فقط من وفاتها، وفي غفلة نادرة من المتاعب اليومية، وجدتني أتابع بالصدفة أحد أفلامها القديمة بالأسود والأبيض (الملاك الصغير- انتاج 1957) حين كانت فتاة غضة في السابعة عشرة تقطر عذوبة وطهرا وبراءة. يشعر الانسان بالراحة حين يتابع أفلام تلك المرحلة.. أين ذهبت تلك الحياة البسيطة الصافية ولماذا امتلأت أيامنا بالشر والحقد والدمار..؟ قصة هذا الفيلم وطروحاته تتحدى كل من يشهر السيف بوجه الابداع الفني الراقي الذي يرفد حياتنا بالمشاعر النبيلة وقيم الخير والجمال..
لقبوها بـ (قطة الشاشة) وليس فيها من طبيعة القطط سوى نعومة الملمس وعينين خضراوين. لم تكن من ذوات المخالب والأسنان، كانت بسيطة وعفوية في تمثيلها، وفي جمالها، فتعلق بها الجمهور في كل أنحاء الوطن العربي وبات يجد فيها رمزا لمعان يُجلّها و يقدسها. زبيدة ثروت بحضورها الطفولي ونظراتها البريئة جسدت نموذجا محببا للفتاة العربية، ابنة العائلة المدللة التي تتربى في أحضان (جدو)، نموذج لم يعد يحتل الصدارة في قائمة تطلعاتنا في زمن الانترنت والعلاقات الغريبة المفتعلة.
هي لم تكن الأكثر انتشارا او الأكثر غزارة في انتاج الأفلام، لكنها بعفويتها وتلقائية حضورها شكلت (أيقونة) ورمزا رائعا لزمن ولّى وتركنا في خواء روحي. وهي أيضا رمزُ لنمط أو مرحلة سينمائية حين كان صوت الممثلة يذوب في النسيم، والموسيقى التصويرية تغمر مشاهد الفيلم كأمواج البحر وتغسل معها القلوب والأرواح. هي لم تكن من اولئك الممثلات الكواسر اللائي يُثرن نوازع الغريزة والشر والانحطاط، بل كانت تمثلُ شاطئا هادئا ترسو عنده أحلام المعذبين والمحرومين. كثيرون عادوا الى أفلامها يوم وفاتها وذرفوا الدموع حزنا على زمن لن يعود، زمنها وزمن رفيق روحها العندليب عبدالحليم حافظ الذي تمنت أن تدفن بجواره.
وبرغم أن رحيلها وقع في أسبوع كان العنف فيه قد تصاعد الى أقصى درجات البشاعة وكاد خبر وفاتها يذوب في ضجيج التفجيرات، الا أن موتها جعلنا ننتقل بشكل ما، من أجواء اليأس والمأساة الى شواطئ فسيحة أكثر أمانا وأنسانية. فحتى وهي تغادرنا بقيت (قطة الشاشة) رقيقة معنا. ولذلك فنحن مدينون لها ولآخر قطرة بكل ماتركته في ذاكرتنا ووعينا من معان جميلة ولحظات صافية.