6-6
في فرقة الجوالة التي انتسبت لها بعد فرقة الكشافة، قمنا برحلات عديدة إلى مدن قريبة، إلى البصرة، إلى مدينة الكوت، وغيرها من الأقضية والنواحي التابعة لتلك المدن. رحلات عديدة. بعضها نسيتها، والبعض الآخر ما زالت ذكراها عالقة في الذهن، مثلاً: الرحلة إلى منطقة الطِيب، أو منطقة الجزيرة، ففي السهوب الواسعة الجرداء الواقعة بين إيران والعراق، كان من الممكن أن يتيه المرء، أن يتحول إلى جوال فعلاً يدور ربما في المكان ذاته، ولا يعرف أنه تاه، هذا ما حصل لنا. تهنا. ولا أعرف لماذا أخطأ القنباص الذي كان عند المسؤول عنا، مدرس الرياضة بالوكالة لأنه كان أستاذ اللغة الإنكليزية أصلاً، الأستاذ ماجد، أو ربما لغروره وتعاليه اللذين عُرف بهما لم يحمل معه أي قنباص، ففي لحظة ما، لم نعرف ما إذا كنا في الأراضي العراقية أم في الأراضي الإيرانية، إلى حين رؤيتنا لراعي غنم مع قطيعه. سألنا الراعي عن مكاننا، فقال لنا بلهجة عرب الأهواز، أنتم في إيران، ثم دلّنا على الطريق الصحيح الذي علينا أن نعود عليه إلى العمارة. ما أزال أتذكر وجه المدرس الذي شحب حتى اختفاء الدم منه لخوفه، عندما عرف بأننا في إيران. لكن المفارقة الكبيرة والتي لا يمكن لي أن أنساها أبداً، من غير المهم كم سنة مرت على ذلك، هو طلب الراعي منا، وقبل أن نسلك طريق العودة، أن نوصل تحياته إلى رئيس الجمهورية العراقية، الزعيم عبدالكريم قاسم! أمر غريب، إن لم يكن طريفاً. نعم، عبدالكريم قاسم. لم يعرف الراعي أننا كنا في عام 1970، وأن الزعيم محبوبه، الزعيم عبدالكريم قاسم قُتل في انقلاب البعثيين الدموي في 8 شباط/فبراير 1963. اليوم كم أحسد الراعي هذا على جهله ذاك. أعوام السبعينات هي الأعوام الأخيرة من انتشار الرعاة هناك، الحرب العراقية الإيرانية في 22 أيلول/سبتمبر فاجأتهم جميعاً بالتأكيد، منذ ذلك الحين وحتى اليوم، لا مكان لقطعان الماشية والرعاة. منطقة الطِيب أو الجزيرة، المنطقة الغنية بالنفط هي مزرعة كبيرة للألغام، إن لا تكون تحولت وعلى مدى السنوات الثماني للحرب إلى مقابر جماعية للجنود. ما يزال أهالي العمارة يروون، كيف أنه في أيام الأمطار الشديدة تجرف السيول القوية معها بعض الألغام.
في زيارتي الأولى للعراق وفي يناير/كانون الأول 2004، وقفت هناك مع صديق طفولة لي كان معي في فرقة الجوالة، شربنا نخب ذكرى الأيام الماضية، ذكرى الطِيب الآخر، عندما كان الأفق مفتوحاً أمامنا، أقرب لنا من السماء، شربنا وبكينا، لكن ضحكنا وشتمنا العالم أيضاً إلى حد البكاء، آه يا أيام الجوالة التي مضت. ماذا فعلت البلاد بنا، وماذا فعلنا نحن للبلاد. أين هم زملاؤنا الذين كانوا أرق من ندى فجر وأحلى من تمر مطبوخ. كلهم ذهبوا، بعضهم قتلته الحرب، قيس مراد مثلاً، والبعض الآخر ضاع في عذاب المهنة وتربية الأولاد، تحسين علي يوسف وجاسب بدر مثلاً، شابا مبكراً صديقاي الجميلان. في ذلك اليوم ودون أن أدري أنني في وقفتي تلك في منطقة الطِيب، إلى جانبي وعلى مرتفع صغير وقف صديقي الذي رافقني إلى هناك، كنت كأنني أقلد صورة الجنود الذين وقفوا في الصورة قبل سبعة عقود وثلاث سنوات، لم يكن دجلة أمامنا، ولا أي نهر آخر، وحده الأفق أمتد متلألئا في البعيد، كم بدا المشهد هادئاً أمامنا، وحده الهواء يتحرك، فيما وقفنا نحن الاثنان في البرية بلا حراك، ربما التفتنا مرة أو مرتين حوالينا، لكي نتأكد أننا الوحيدان اللذان وقفا هناك، الجنود في البطاقة البريدية بدوا كأنهم يترقبون ما سيأتي، فيما بدونا نحن، كأننا خرجنا للتو من معركة، باستثنائنا، لم يخرج منها أحد على قيد الحياة!
العسكر البريطانيون وكشافة بغداد
[post-views]
نشر في: 3 يناير, 2017: 09:01 م