كما هو متوقّع فإن مشروع "التسوية" لم يصمد طويلاً، وها هو يواجه مأزقاً صعباً في بداية مشواره. فالفيتو الذي أعلنه المرجع السيستاني يسمح بالقول إنّ المشروع لم يعد يمتلك الغرين لايت المطلوب لاستمراره ومن ثم نجاحه.
فقبل أُسبوعين كتبتُ، في هذا العمود، أنّ التحديات التي تواجه مشروع "التسوية"، هي ذاتها التي أجهضت العشرات من مبادرات رعتها الأمم المتحدة وشاركت في طبخها أطراف إقليميّة، وسوّقتها أطراف سياسيّة بوصفها طوق النجاة الأخير للعراق.
وقبل أن يُعلن المرجع الأعلى موقفه ويتبعه الصدر في ذلك، فإن كل المعطيات السياسية والميدانية، التي أشّرناها سابقا، كانت تربط نجاح مشروع التسوية بتأييد المرجع الأعلى، الذي يمثل الشرعية الدينية والأخلاقية بالنسبة للمكوّن الشيعي.
لكن قبل كل ذلك، لابدّ من الإشارة إلى أنّ "التسوية" كمبدأ يُمثّل قضية وطنية، ومن المستبعد أن تلقى معارضة المرجع الأعلى الذي لم يرفضها بشكل صريح وقاطع، بقدر تحفّظه على تفاصيلها غير الناضجة.
وتشي بيانات المتحدّث باسم المرجعية أنّ الأخيرة لديها تحفّظات جوهرية على المشروع الذي يقوده زعيم المجلس الأعلى عمار الحكيم، إلا أنها فضلت عدم الزج بنفسها. كما أن المرجعية لم تشأ إحراج عرّابي المشروع، الذي يحمل بذور فشله في داخله، بل طلبت منهم تحمّل مسؤوليّتهم أمام الشعب الذي يمتلك أجندة أولويات مختلفة عن قائمة الكتل والأحزاب التي تزعم تمثيله.
وقبل التوجه الى النجف، عوّل الحكيم لإنجاح "التسوية" على الزخم الذي سيعقب تحرير الموصل أولاً، وتبنّي الأُمم المتحدة للمشروع ثانياً، بما قد يدفع أطرافاً إقليمية لدعم المشروع وإنجاحه عبر تفاهماتها مع الأطراف العراقية الحليفة.
لكنَّ هذه الحسابات لم تكن دقيقة بالمرّة. فمشروع الحكيم يصطدم بالعبادي الذي يعكف على استثمار النصر في الموصل عبر تشكيل "كتلة التحرير والبناء"، وعمله على مشروع بديل "المصالحة المجتمعيّة" الذي بدأ يكثر الحديث عنه مؤخراً، ويسعى لاستقطاب الصدر وأطراف أخرى.
كما أنّ التسوية تواجه مأزق الاضطراب الذي يضرب دول الإقليم، التي لم تعد مُمسكةً بخيوط العنف في العراق كما كان الوضع قبل 2014. فالدول التي يطلب منها ضمان الأمن في العراق، كتركيا والأردن ومصر، تعاني بدورها من اضطراب أمني وسياسي يمنعها من لعب دور الضامن.
وبالتالي فإن المرجعية الدينية كانت تؤشر إلى ضرورة أن تنطلق التسوية من داخل العراق بتقوية هياكل الدولة على أسس متينة. كما يجب ان تبدأ التسوية والمصالحة من داخل التحالف الوطني الذي يعاني تشظّياً كبيراً يمنعه من لعب دور العرّاب. فعندما تريد تمثيل مكوّنك، يجب عليك أن توحّد صفوفك أولاً، وإلّا فإنك ستواجه مأزقاً سياسياً محرجاً. كما إن الحاجة تدعو الى تسوية بين الحكيم والصدر من جهة، وبين الصدر والمالكي من جهة أخرى.
إلى جانب ذلك، فان المرجعية ترفض ان تؤدي التسوية الى تكريس سلطة القوى السياسية المتحاصصة التي تهيمن على الحياة السياسية منذ 2003. وهي بالتالي تدعو الى تغيير قانون الانتخابات بما يسمح بتوسيع دائرة المشاركة السياسية وكسر طوق احتكار القوى الحالية.
وبالمحصّلة فان عموميات النصوص، وغموض الاهداف، وتناقض المواقف، واحتكارها من قبل بعض الاطراف، لم يغب عن طاولة المرجع الأعلى الذي قرأ المشروع قراءة سياسيّة واعية، دفعته الى تفويت الفرصة على أطراف التسوية لاستثمار مباركته واستخدامها كدعاية في الانتخابات المقبلة.
في موازاة ذلك، استثمر الصدر موقف المرجعية العليا لكي يوجّه الضربة القاضية لمشروع التسوية، ويُعزِّز حضوره في الشارع بعد تراجع دوره في قيادة الاحتجاجات. رغم أنّ المعطيات تؤكد انخراط ممثّلين عن الصدر في طبخ المشروع منذ بدايته، ومشاركتهم في لقاءات عُقدت في دول الجوار.
لقد أدركتِ النجف أنّ "التسوية" ليست إلّا مشروعاً سياسياً لا يختلف عن بقية المشاريع التي تم تسويقها طيلة الأعوام الماضية. لا بل إنّ المشروع تحتكره أطراف شيعية وسُنية تزعم تمثيل مكوناتها، ويتم تسويقه بوصفه مشروع إنقاذ وطني لما بعد مرحلة داعش وتحرير الموصل، رغم افتقاره إلى المقوّمات المطلوبة.
أجزم أنّ مرجعيّة النجف طرحت، عبر قنواتها، ذات الأسئلة التي نطرحها على ممثلي القوى السياسية، لكنها قررت بعد ذلك أن تُدير ظهرها لمشروع لا يُحسن عرّابوه الدفاع عنه.
التسوية بين الحكيم والصدر
[post-views]
نشر في: 4 يناير, 2017: 09:01 م