- كلام الإنسان يشبه السجادات الفاخرة الغنية بنقوشها التي لا تظهر أنماطها إلا عند فرشها وفتحها؛ فعندما تطوى السجادات تختفي الأنماط فتضيع.
ثميستوكليس
كشفت سجادة الخطاب العراقي –عندما جرى فرشها لمواجهة الوقائع المختلفة- عن ضروبٍ من الأداء السياسي المتناقض مثلما كشفت عن أنماط الخطاب الغرائبية المتسمة بالسفَهِ والحماقة والتخوين والتجريح العلني مدفوعة بنزعات شوفينية وطائفية من الأطراف جميعها واستخدم الخطاب أسوأ الألفاظ للنيل من المخالفين بين من يحسبون على فئة المثقفين أو مدعي الثقافة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض المنشورات الإلكترونية وسواها.
كشفت السجادة العراقية أيضا عن طبيعة الأنماط الفكرية والنفسية والثقافية في المجتمع الذي أنهكته الحروب والدكتاتورية والاحتلال وتسلط الأحزاب الدينية وتبين أن نقوش السجادة العراقية التي أوهمونا بأنها تضم رسوما لجنائن الديموقراطية وعصافير الفراديس وأشجار النعمة،تبين أنها سجادة افترسها العث وأن الثقافة السائدة في مجتمعنا هي ثقافة محو كل مختلف وطرده من الفضاء العام لأنه لا يوافق نظرة فئة معينة لواقعنا الملتبس، وأشبعت فضاءات الحوار هبابا ونتانة وسبابا حتى تلبدت السماوات بالسواد وتعالت نبرة الطائفية من كل نافذة وباب و أوصدت سبل الحوارالعقلاني في جو العصاب الشامل والهيستيريا والمعارك الكلامية التي تقودها جماعات من مدعي السياسة والثقافة والصحافة بعد أن ورث المشهد العراقي أوراماً خبيثة يصعب استئصالها بقرار أو حوار أو قانون وتفجر قيحها المزري ولوث وجوه الجميع حين توارى مفهوم المواطنة أمام ادعاء الوطنية وتهاوى مفهوم قبول المختلف أمام عنجهية الخطاب القائل بأنه مالك الحقيقة الوحيدة وانتحرت فكرة الشراكة الوطنية وتكسرت نصال الصراع اللغوي في ضلوعنا وخواصرنا فأينما اتجه العراقيون بأنظارهم وخطاهم حاصرتهم قذائف الموت والسيارات المفخخة والخطاب الملغوم والمواقف الانفعالية من جميع الاطراف المتحاصصة التي ألقت إسفلت الخراب الأسود على وجه العراق الحزين. يذكرنا " توماس أوستلر" في كتابه القيم "إمبراطوريات الكلمة" بحقيقة أساسية لفهم علاقتنا باللغة باعتبارنا بشرا فيقول : " إذا كانت اللغة هي التي تجعلنا بشرا، فإنها هي التي تجعلنا بشرا متفوقين " وأضيف إلى مقولة "أوستلر" وتجعلنا بشرا منحطين أيضا.ما يلاحظ على مجتمعاتنا المتشنجة العاجزة والمستلبة أنها لا تملك من أسلحة مواجهة الكوارث سوى "اللغة الهابطة" لغة السباب والتجريح والفضح، لغة شتم شرف الأم والأخت والعشيرة والطائفة والعِرق والقومية والحكومة وصولا إلى شتم العمل الذي يمارسه المرء مهما كان راقيا أو عفيفا أو مضنيا.
يورد " أوستلر" حكاية عن المؤرخ الأغريقي "بلوتارخ" الذي يروي قصة لقاء القائد الأغريقي " ثميستوكليس" الطموح مع الملك الفارسي " أكسيركسيس" أو كسرى الذي واجه الملك الإسبارطي "ليونيداس " وقتله ، وسمح كسرى لثميستوكليس الإفصاح عما يدور بخلده بحرية تامة في ما يخص القضايا الإغريقية ، فأجابه " ثميستوكليس " :
- كلام الإنسان يشبه السجادات الفاخرة الغنية بنقوشها التي لا تظهر أنماطها إلا عند فرشها وفتحها ، فعندما تطوى السجادات تختفي الأنماط فتضيع.
أعجب كسرى بهذا التشبيه البليغ ، فالسجادة الفاخرة رمز مهم في الثقافة الفارسية ثم طلب القائد الأغريقي من كسرى أن يمنحه وقتا ؛ فقال له : لك من الوقت ما تشاء ؛ فطلب الرجل مهلة سنة واحدة ، وبعد انتهاء السنة أتقن " ثميستوكليس" اللغة الفارسية اتقانا فائقا و تكلم مع الملك بلغته فأجاد إيصال أفكاره.
نعم: اللغة هي التي تجعلنا بشراً وهي التي تكرسنا بشراً متفوقين وعقلانيين مثلما تجعلنا حمقى وعاطلين عن حكمة الحوار.
السجادة العراقية وآفة العث
[post-views]
نشر في: 7 يناير, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...