TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > شحذ القريحة

شحذ القريحة

نشر في: 8 يناير, 2017: 09:01 م

الشاعرُ يعرف كيف تبدأ قصيدتُه، من أية قدْحةٍ تلتهب، ومن أي نبع تتدفّق. جملةٌ ذات إيقاعٍ أحياناً، صورة تثبُ من المخيلة، جملةٌ من نص شعري أو نثري لدى القراءة، خلطة ألوان، لحن، ذكرى، رائحة. الشاعر يعرفُ المناخَ النفسيَّ الذي تُمليه عليه، قبل أن تبدأ. أحدهم يتعجّل احتساءَ القهوة مع سحبةِ دخان من سيجارة، آخر يُعدُّ كأساً، وثالث يأخذُه طربٌ فيهمهم بلحنٍ غامضٍ على غير تعيين، ورابع يلاحق بنقرات إصبعه إيقاعاً مجرداً: مستفعِلنْ.. مستفعِلنْ. كلُّ الشعراء الذين قرأتُ حياتهم، عرباً وعالميين، قدامى أو جُدداً، يحتفون بتلك اللحظة، فيذكرونها، أو تُذكر عنهم.
النقادُ العرب القُدامى يسمونها "شحذ القريحة"؛ فقد يكون هذا "الشحذُ" عصيّاً على شاعر مثل الفرزدق، المُحكّك، الذي "ينحت من صخر"، حتى ليقول عن نفسه: "تمرُّ عليَّ الساعةُ حتى لقلع ضرسٍ من أضراسي أهونُ عليَّ من عمل بيت من الشعر." والشاعر جرير، الذي كان بالمقابل "يغرف من بحر"، يجد في "الخلوة" مع النفس مُعيناً على شحذ القريحة. كان إذا أراد أنْ يؤبّد قصيدةً صنعها ليلاً: يُشعل سراجه ويعتزل، وربما علا السطحَ وحده فاضطجع وغطّى رأسَه رغبة في الخلوة بنفسه. ونقيضه الفرزدق يعتمد الخلوة أيضاً. كان إذا صعبتْ عليه صُنعة الشعر ركب ناقتَه، وطاف خالياً منفرداً وحده في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة الخالية. وإذا كانت هذه الخلوات ذات سمة صحراوية فابن الحاضرة كأبي نؤاس، الذي لا يقل حاجةً لها، يستدعي قصيدته بالخلوة مع الكأس: "أشربُ حتى إذا كنتُ أطيبَ ما أكون نفساً بين الصاحي والسكران صنعتُ وقد داخلني النشاطُ وهزّتني الأريحية." وقد يذهب شاعرٌ آخر من أبناء الترف إلى أبعد من هذا: "ما يُعينني على الشعر زهرةُ البستان وراحةُ الحمّام." ثم قد يُضيف إلى القائمة: طيبَ الطعام، والشراب، وسماعَ الغناء. على أن الخلوة بالنفس هي المحور، حتى أن الشاعر الخليع قال: "منْ لمْ يأتِ شعرُه من الوحدة فليس بشاعر."
والشاعر الذي يَحسُن صوتُه عادة ما يحب الهمهمةَ اللحنية، وأداء ما يردُه من أبيات القريحة غناءً. العربُ تقول: "مِقودُ الشعر الغناءُ به." وذُكر أن أبا الطيب المتنبي كان يفعل ذلك. حضره أحدهم وهو يكتب قصيدته فرآه "يتغنّى ويصنع، فإذا توقف بعض التوقف رجّع بالانشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى." والقريحة التي تفيض بالغناء تحتاج العشق بالضرورة: يقول بعضهم: "من أراد أن يقول الشعر فليعشق فإنه يرق."
الشاعر الحديث لا يختلف عن القدامى في هذه الحاجة لشحذ القريحة. ولكنه اختلف برصدها عبر لغته، في المخيلة والصورة. هناك أكثر من التفاتة واحدة، في الشعر الذي كتبته عبر نصف قرن، إلى لحظة ولادة القصيدة. هذه آخرها:   
مخاضُ القصيدة
... وأعددتُ في البيتِ لحماً قديدا / وكأساً من الخمر، ثم انتظرتُ القصيدة.
بدتْ  أولَ الأمر حرفَ أسىً دامعِ
يدور كخيطِ دخان السجائرِ، في اللونِ والشكلِ والرائحة.
وفي لحظةٍ دبَّ صوتٌ عصيٌّ على أذنِ السامعِ،
يحاول لحناً نشازاً، ومعنىً مَجازاً، وغاياً بلا غايةٍ واضحة.
أرى خطواتي تُقاد بجذبٍ خفيٍّ،
ويكبحُها، حيثُ تمضي، الجدارْ.
وتخْفى عن العين بابٌ ونافذةٌ، ثم يُحجبُ ضوءُ النهارْ.
تحلّق فرشاةُ كفي،/ أراها تعيدُ الخفايا التي لا تبينْ
ملونةً ملء عيني. ويضطرُّها فجأةً سببٌ قاهرٌ
فتأخذ بالخطِّ أسودَ ترشقُ فيه المكانْ،
بغير هدىً./ أرى أن شكلَ القصيدة ثانيةً يتجلى
لعينيَّ حرفَ أسىً دامعِ/ يدور كخيط الدخانْ،
وها يستقرُّ على السطر، في الورقِ اللامعِ.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram